فرنسا في القرن التاسع عشر دولة ولا أعظم، وغطرستها أيضا غطرسة ولا أعظم. جيشت جيوشها المشحونة عن آخرها بالكراهية لكل ما هو غير مسيحي وغير فرنسي، فاختلقت أسبابا واهية للهجوم على الجزائر أولا، ثم على الدول الإفريقية الأخرى، واستعمرتها استعمارا وحشيا، استعملت فيه كل أساليب القتل والتدمير لإبادة الشعوب المستعمرة، حتى يخلو أمامها الجو لتستنزف ثرواتها الطبيعية. وارتكبت جرائم وجرائم أثناء تواجدها على تلك الأراضي الإفريقية العذراء، وأخذت تستخرج خيرات تلك البلدان وتحوّلها إلى فرنسا لتبني دولتها، وبذلك صارت دولة عظمى، قامت على أشلاء الشعوب المستعمرة، وبفضل خيراتها المنهوبة. ولولا ذلك، لظلت تحت رحمة مشاكلها الداخلية التي عرفتها، ولبقيت في تخلفها تصارع بقاءها. ولكن بحيلتها ومكرها، وجدت الحل، مثلها مثل الدول المستعمرة الأخرى، وجدت الحل لمشاكلها في تصديرها إلى البلاد المجاورة، فملأت بواخرها بكل الصعاليك المشاغبين ونصبتهم على أراضي أصحابها الذين استعملت معهم سياسة الإبادة الجماعية، كما يعترف به سفاحوهم في مذكراتهم، ببرودة المجرمين العتاة. هكذا صارت فرنسا دولة ولا أعظم. وفي القرن الموالي، لم يتوقف كبرياؤها عند حد استعمار أراض ليست لها، بل سعت لتغيير تاريخ هذه الشعوب بادعاءات لم تنطل على تلك الشعوب المستعمرة مثل الجزائر، وكان لابد لها لتبرهن على عظمتها، أن تكون دولة نووية، بعد أن صار العصر عصر الاكتشاف النووي. وحتى تجاري الولاياتالمتحدة في هذا الميدان، سعت إلى تطوير برنامجها النووي، ولم تجد أحسن من الصحراء الجزائرية الكبرى لتجاربها. ولأن الجزائر لم تكن موجودة كدولة لتقاوم أفعالها الإجرامية، فقد وجدت الساحة خالية للقيام بتفجيرات مازالت آثارها باقية على أهالي المنطقة، يتوارثونها جيلا عن جيل، دون أن تعير أدنى اهتمام للآثار الوخيمة التي خلفتها تجاربهم، رغم اعتراف بعض أبناء فرنسا بتلك الجرائم. ورغم نداءات الجمعيات الإنسانية للاعتراف والعمل على تعويض الخسائر لتكفر على الأقل عن أفعالها الإجرامية، وتبدي من جهة أخرى حسن نيتها تجاه الشعب الجزائري، وأنها تسعى لتصليح ما أفسده الاستعمار، حتى تقوم العلاقات بين البلدين على أسس جديدة من التعاون بعيدا عن الاستغلال، ولكن فرنسا ولأنها متغطرسة ومتمادية في كبريائها لا تريد أن تتنازل شبرا ولا تنوي لا في القريب ولا في البعيد أن تعترف بجرائمها، مادامت تسن قوانين لتمجيد المجرمين وأفعالهم الشنيعة، وتعترف بالخيانة والخونة، الذين تنصلت منهم الجزائر، وبالربح عليها، كما يقول المثل عندنا. وانطلاقا من هنا، كان من اللازم على الجزائر أن تتصدى لهذه الغطرسة والتنكر للحقيقة، بتحركات، وهو ما سعت له عدة جمعيات منذ فترة، من شأنها أن تحفظ كرامة شهدائنا الذين مازالت فرنسا تهينهم بتعنتها، تعنت يدل أكثر ما يدل على كراهية مازالت معششة في النفوس، أو حسرة على عصفور طار من بين أيديهم. في المدة الأخيرة، شهدت وتشهد الجزائر تحركاً برلمانيا وجمعوياً لتمرير قانون يجرم الاستعمار الفرنسي الذي استمر من عام 1830 إلى العام 1962، وينشط في هذه السبيل نواب وجمعيات بغية الوصول بمشروع هذا القانون إلى تشيكل محكمة جنائية تتولى محاكمة فرنسا عن الحقبة الاستعمارية الممتدة من 1830 إلى 1962. ويضم مشروع القانون 20 مادة، أولاها "تجريم الاستعمار الفرنسي عن كامل الأعمال الإجرامية التي قام بها في الجزائر"، ويطلب في مادة أخرى استرجاع الأرشيف الجزائري الذي استولت عليه فرنسا. وفي بيان أصدره في 26 جانفي الماضي، أكد ديوان المجلس الشعبي الوطني، أنه بتّ في مشروع قديم "لتجريم الاستعمار"، وأنه قرر تحويل المقترح للدراسة، ليكون النص كاملا شكلا ومضمونا، حيث ينتظر أن يرفع على مستوى مكتب البرلمان، الذي سيقرر تسجيله في جدول أشغال الدورة المقبلة، التي ستفتح يوم 2 مارس 2010. ومشروع القانون هذا، يرهن علاقات الجزائربفرنسا بشروط: "سيظل مستقبل العلاقات بين البلدين مرهونا بمدى رضوخ فرنسا واستجابتها لمطالب الشعب الجزائري، والمتمثلة في الاعتراف والاعتذار والتعويض عن الأضرار". وأما بشأن اعتراف فرنسا بجرائمها، أكد محمد شريف عباس في وقت سابق، بأن الاعتراف أمر مفروغ منه، وهو موقف ثابت بالنسبة للدولة الجزائرية وسيظل مطلبا قائما إلى غاية أن يتحقق. مضيفا بخصوص استرجاع الأرشيف الوطني، بأن الورشة لا تزال مفتوحة وهي حاليا تشتغل وكل واحد من الطرفين، الجزائري والفرنسي، يحاول الدفاع عن مصالحه، نظرا لأن فرنسا ترى في الأرشيف الجزائري مصالح تخدمها. في حين، تحاول تخفيف أهمية الأرشيف على اعتبار أنها قسمته إلى أرشيف سيادي وآخر عادي. وفي لقاء إعلامي، ضم نوابا من المجلس الشعبي الوطني، وبعض الأساتذة الجامعيين في التاريخ، تناول هذا الموضوع الحساس، وأثيرت بعض الأسئلة تتعلق بآليات تطبيق هذا القانون التي يجب تفعيلها كما ورد على لسان أحدهم. كما تعرض أحدهم لمسألة استجابة فرنسا لهذا القانون، في ظل ما تنص عليه اتفاقيات إيفيان، ومسألة تأخر الجزائر عن إصدار هذا القانون. أسئلة تثير كثيرا من المسائل الأخرى التي يصعب الخوض فيها دون الوقوع في خطأ التقدير، لذلك سأتناول الموضوع من الزاوية التي أراها منسجمة مع تربيتي وتكويني، من أن فرنسا دولة استعمارية، لا حق لها في الوجود على أرض الجزائر، وجرائمها المرتكبة في حق الشعب الجزائري، ليس بالأمر الذي يجب السكوت عنه، فمثل هذا القانون أو مشروع القانون مرحب به، لا كرد فعل على قانون فرنسا الذي يمجد الاستعمار، ولكن كحق لا ينازعها فيه أحد، في الوقت الذي نفس فرنسا هذه، تضع نفسها في موقف المدافع عن حقوق الإنسان، لما تجرم تركيا على ما فعلته بالأرمن، رغم أنها لا علاقة لها مباشرة بالموضوع، فقط لأنها تفكر بمنطق استعماري عنصري موشوم بالكراهية تجاه كل ما هو مسلم. ولأنه حق، مثل حق مقاومة الاستعمار ومحاربته، لابد من العمل أيضا بنفس المنطق لاستعادة كرامة الشهداء بمعاقبة المجرمين، وهذه مصلحتنا كجزائريين الأولى قبل المصلحة المادية التي تتمثل في التعويضات، وفرنسا الاستعمارية العنيدة، مازالت بعنادها، ولا يمكن أن ترضح بسهولة، رغم أن هناك جهات فرنسية كثيرة تدعو فرنسا الرسمية للاعتراف وتخليص الضمير الفرنسي من عقدة الاستعمار وعقدة الجزائر على الخصوص. فمن هي فرنسا هذه؟ هناك فرنسا الحضارة وهناك فرنسا الهمجية، وفرنسا العسكرية لم تكن هي ذاتها فرنسا ذات الشعار: الأخوة، المساواة والحرية. ففرنسا الهمجية الممثلة في العسكر، قاصرة على استيعاب ما يأتي به الفكر الإنساني، وما يطمح إليه الإنسان العادي، فرأس العسكري لم تتدرب سوى على تلقي أوامر إطلاق النار والتعذيب. ظلت فرنسا تعيش بثقافتين متناقضتين ظلتا بدورهما متصارعتين ولا تزالان، فلقد وجد العسكري ضالته في الحرب لإشباع رغبته الهمجية، في الوقت الذي كان الفرنسي المستنير يعتقد أن دولته تقوم بتحضير المجتمعات المتخلفة وتمدينها، وهو ما يتضح في شعر الأديب الفرنسي فكتور هيجو الذي كان يحلم بأوروبا المتحدة، لكن فرنسا اليوم قطعت شوطا في الحضارة وهي مطالبة بالاعتراف بما اقترفه عسكريوها من الجرائم. عندما كشف جاك ماسو ومعاونه الجنرال بول أوساريس عن ممارسة التعذيب بصورة ممنهجة على المشتبه بهم أثناء حرب الجزائر، فقد غضب الشارع السياسي بفرنسا أمام مقترح الحزب الشيوعي بإجراء تحقيقات واسعة لإثبات حجم التورط الفرنسي في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية خلال حرب الجزائر، وأربك هذا الموقف فرنسا وجعلها تعيش في دوامة سياسية غير اعتيادية. غير أن تيارات اشتراكية وديغولية، سعت إلى إخماد هذه الصرخة في مهدها، وما تزال، منتقدة الحزب الشيوعي واصفة إياه بالمتعاطف مع الثوار الجزائريين، وقد أثار هذا الحدث ردود فعل متضاربة وساخنة في الوسط الإعلامي والسياسي الفرنسي. واعترف الرجلان ماسو وأوساريس أن التعذيب استخدم على نطاق واسع، وقد طالب أوساريس فرنسا الاعتراف بذلك رسميا والتنديد به، غير أن الأمور سارت عكس ذلك تماما، حيث أصدرت فرنسا قانون 23 فيفري 2005 الممجد للاستعمار، وكأنه يقول بأن للاستعمار محاسنه التي ذكرنا جانبا منها في الأعلى. لقد سجل التاريخ صفحات ناصعة لمثقفين فرنسيين لم يتوقفوا عن دعمهم للشعب الجزائري، وقد استمر هذا الدعم لمطالبة فرنسا بمراجعة سياستها تجاه الجزائر، وفي هذا المنحى تحرك عدد من المثقفين وقّعوا بيانا وصفوا فيه السياسة الفرنسية بالمتواطئة في جرائم ضد الإنسانية، وقد جاء هذا البيان بعد صدور كتاب "الحرب القذرة" للضابط حبيب سوايدية، وكان على رأس قائمة الموقّعين على البيان المفكر الراحل بيار بورديو. إن القول بضلوع عناصر من الجيش في مجازر ضد المدنيين، يؤكد ضلوع الأجهزة السرية الفرنسية في إدارتها لهذه الحرب القذرة. وأكثر من ذلك، يؤكد ما راج حول علاقة الاستخبارات الفرنسية للقضاء على أكبر عدد ممكن من الجزائريين وتصفية أغلبية إطاراتها. هكذا، ابتلعت حرب التحرير في ظرف سبعة أعوام مليونا ونصف المليون من الأرواح، أي ما يناهز 500 شهيد يوميا، إذا أخذنا بالمصدر الجزائري. أما إذا أخذنا بالمصدر الفرنسي، فإن ما يناهز 250 شهيدا كانوا يسقطون يوميا. وجاءت اتفاقيات إيفيان، كان في تمثيل الطرف الجزائري، كريم بلقاسم، محمد الصديق بن يحيى، أحمد فرنسيس، سعد دحلب ورضا مالك وأحمد بومنجل، والطرف الفرنسي، لوي جوكس وكلود شايي وبرونودولوس... ورغم الجلسات المتكررة ما بين 20 ماي 13جوان 1961، لم يحسم في القضايا الجوهرية وتم تعليق المفاوضات. واستؤنفت المحادثات في لوغران ما بين 20 28 جويلية 1961، لكن بدون جدوى، مما جعل المفاوض الجزائري يبادر هذه المرة إلى تعليقها بسبب إصرار الحكومة الفرنسية على التنكر لسيادة الجزائر على صحرائها ولم تباشر الحكومة المؤقتة اتصالاتها إلا بعد أن تحصلت على اعتراف صريح في خطاب الرئيس الفرنسي شارل ديغول يوم 5 سبتمر 1961، ضمنه اعتراف فرنسا بسيادة الجزائر على صحرائها. على إثر ذلك، تجددت اللقاءات التحضيرية في مدينة بال السويسرية جمعت رضا مالك ومحمد الصديق بن يحيى ب شايي ودولوس عن الطرف الفرنسي. وفي 9، 23 و30 ديسمبر 1961، التقى سعد دحلب بلوي جوكس في مدينة لي روس لدراسة النقاط الأساسية ومناقشة قضايا التعاون وحفظ النظام أثناء المرحلة الانتقالية ومسألة العفو الشامل. ذلك العف والشامل الذي ربما أعاق إثارة مسألة المطالبة مبكرا بعقاب المجرمين من العسكريين وغيرهم، على المستوى الرسمي. بعد أن صادق المجلس الوطني للثورة الجزائرية على مسودة لي روس، أعلنت الحكومة المؤقتة رغبتها في مواصلة المفاوضات رسميا في مدينة إيفيان الفرنسية أين التقى كريم بلقاسم وسعد دحلب ومحمد الصديق بن يحيى، ولخضر بن طوبال وامحمد يزيد وعمار بن عودة، رضا مالك والصغير مصطفاي بالوفد الفرنسي: لوي جوكس وروبير بيرون، وبرنار تريكووبرينودولوس وكلود شايي والجنرال دوكماس، في جولة أخيرة من المفاوضات امتدت ما بين 7 18 مارس 1962، توجت بإعلان توقيع اتفاقيات إيفيان وإقرار وقف إطلاق النار، وإقرار مرحلة انتقالية وإجراء استفتاء تقرير المصير. كما تضمنت هذه الاتفاقيات، جملة من اتفاقيات التعاون في المجالات الاقتصادية والثقافية سارية المفعول لمدة 20 سنة. فإذا كانت العشرين سنة قد استهلكت، فإنه مضى على ذلك عشرين أخرى ونيف، وهذه المدة تسمح لنا بطرح أسئلة عن معرفة ما وراء الاتفاقيات خدمة للبلاد وللتاريخ، فبقاء الأمور غامضة مبهمة، تتناولها الأهواء مدا وجزرا، لا يسير في اتجاه مصلحة الدولة الجزائرية التي يطمح كل مواطن إلى تحقيقها،وبقاء الأمور في الظل لا يخدم سوى مصلحة عدو الأمس واليوم الذي لا يرحم أحدا في سبيل مصلحته، فقانون تمجيد الاستعمار استفزاز لنا، وكأنه يقول لنا، ماذا فعلتم باستقلالكم أيها الجزائريون، بعد أربعة عقود من الزمن؟ والله أعلم. أكد ديوان المجلس الشعبي الوطني، أنه بتّ في مشروع قديم "لتجريم الاستعمار"، وأنه قرر تحويل المقترح للدراسة، ليكون النص كاملا شكلا ومضمونا، حيث ينتظر أن يرفع على مستوى مكتب البرلمان، الذي سيقرر تسجيله في جدول أشغال الدورة المقبلة، التي ستفتح يوم 2 مارس 2010. لأنه حق، مثل حق مقاومة الاستعمار ومحاربته، لابد من العمل أيضا بنفس المنطق لاستعادة كرامة الشهداء بمعاقبة المجرمين، وهذه مصلحتنا كجزائريين الأولى قبل المصلحة المادية التي تتمثل في التعويضات. القول بضلوع عناصر من الجيش في مجازر ضد المدنيين، يؤكد ضلوع الأجهزة السرية الفرنسية في إدارتها لهذه الحرب القذرة. وأكثر من ذلك، يؤكد ما راج حول علاقة الاستخبارات الفرنسية للقضاء على أكبر عدد ممكن من الجزائريين وتصفية أغلبية إطاراتها.