أخذت ظاهرة الانتحار منحى تصاعديا مقلقا في مجتمعنا الجزائري، يعكسواقعا مرّا يعايشه على مضض بعض أفراده، ممّن فقدوا الأمل وانسدّ في وجوههم الأفق الرّحب، ليعتلي غياب السكن، البطالة، الصدمات العاطفية، »الحقرة« والفشل الدّراسي قائمة دوافع الجزائريين لوضع حدّ لحياتهم، »صوت الأحرار« غاصت في الظاهرة وحاولت تسليط الضّوء على حالات منها من طفت فوق السّطح ومنها من توارت خلف ستار افتضاح الأمر، بعضها انتهت بنجاة أصحابها بأعجوبة وأخرى انتهت بمآس حقيقية.. فهذا يحرق جسده لعدم استقباله في إدارة عمومية أو مكاتب خاصّة، وذاك ينتحر لإقصائه من الاستفادة من سكن أو حتى احتجاجا على طرده بمعية باعة فوضويين، وتلك تنتحر شنقا بعد قرار والديها تزويجها لشخص لا تحبّه، وأخرى لرفضهم تزويجها بمن تحب، والأدهى أن ينظمّ إلى طابور الانتحار حتّى الأطفال، فيما تبقى الأسباب والدّوافع عديدة ومتنوّعة، بانتظار ايجاد حلول ناجعة من شأنها الحدّ من انتحار شبابنا وأطفالنا. »الحقرة« والسكن والبطالة والفشل الدراسي.. أسباب تقتل الجزائريين الموت حرقا أو شنقا أورميا بالرّصاص أو بتناول السمّ أو أيّ مواد خطيرة مميتة أوشديدة الالتهاب.. هي سبل عديدة يلجأ إليها اليائسون من »رحمة الله«، بينما الغاية واحدة الموت، الذين يخالونه سبيلهم الوحيد للخلاص من حياة أرهقتهم ولم يجدوا فيها حلولا لمشاكلهم أو مخرجا لأمراض نفسية تسكن بواطنهم، هم جزائريون مثلنا، ينتمون لطبقات الفقراء، ميسوري الحال وحتى الأغنياء، هم اميّون وحتى متعلّمون، يشغلون وظائف بسيطة ومنهم محامون، أساتذة، أطبّاء وحتى إطارات في الدّولة، جميعهم اصطفّوا في طابور الانتحار. ..هي ظاهرة خطيرة، تنخر عمق المجتمع الجزائري، وبات أفراده من جميع الفئات يقدمون على وضع حدّ لحياتهم في السرّ والعلن، وسط حالة من التّعتيم والتكتّم تلفّ حالات الانتحار في بلادنا، بدءا من غياب ارقام رسمية، في وقت يؤكّد المختصّون أنّها لو وجدت فلن تعكس سوى جزءا من الواقع، لأنّ ما تخفيه أسوار البيوت باسم »الطابو« تارة والخوف من ألسنة قد تلوكهم بالأسوء تارة أخرى، يجعل من الانتحار ظاهرة تستوجب دقّ ناقوس الخطر.، خاصّة وأنّ الاقبال عليه ليس مرتبطا بالضرورة بمرض نفسي أو عصبي وإنّما أضحى البعض ينتحر لأتفه الأسباب، ومنها ما تتعلّق حتّى بالعاطفة. تعدّدت الوسائل والموت واحد يؤكّد المختصّون أنّ الطرق التي يلجأ إليها »ضعاف النفوس والإيمان« للانتحار بالمدن الكبرى تختلف عن تلك التي يستخدمها المنتحرون بالأرياف والمدن الدّاخلية، حيث ينتحر المقيمون بالمدن الكبرى شنقا أو برمي أنفسهم من الأعالي، بينما ينتحر عادة المقيمون بالمناطق الأخرى بتناول الأدوية أو مواد سامّة أو ببنادق صيد، بينما تؤكّد الدّراسات المعدّة في المجال أنّ هؤلاء يشتركون في دوافع الانتحار، حيث تتصدّر المشاكل الاجتماعية على غرار الفقر والحاجة، البطالة وغياب السّكن قائمة الأسباب، وتشعر الشّخص الفاقد لها بأنّ جسده أضحى يشكّل عبئا ثقيلا عليه وجب تخلّصه منه. في ذات السّياق كشفت عديد الدّراسات الاجتماعية أنّ 50 بالمائة من حالات الانتحار تتمّ عن طريق الشّنق، على اعتبار أنّه وسيلة في متناول الجميع وأسهل مقارنة برمي الجسد من الأعالي أو تجرّع مادّة سامّة قد تكون نتائجها غير مضمونة، وأنّ الإقبال على الانتحار ليس مرتبطا بالضّرورة بمرض عقلي أو عصبي، حيث كان من المعروف خلال سنوات السبعينات إقدام المصابين بمرض عقلي أو عصبي على الانتحار دون غيرهم، بينما اصطفّ، اليوم، في طابور الانتحار »الغارقون« في مشاكل اجتماعية وحتّى عاطفية، تجعل الشّاكي منها يطلب الموت بدل العمل على إيجاد مخرج أو حلول لها. استخدام البنزين وإشعال الولاّعة أو الكبريت، تناول مواد مخدّرة أو سامّة، استعمال الحبل، خيط الكهرباء أو الهاتف، أسلحة بيضاء وشيفرة حلاقة..وغيرها كثير، وسائل يلجأ اليها اليائسون لوضع حدّ لحياتهم بينما النتيجة تكون واحدة إمّا الموت المحقّق أو تجرّع تبعات فعلتهم، الضّرب، العزل وفي حالات تعدّ على الأصابع التّوجيه نحو مختصّ في علم النّفس أو تضامن العائلة لإيجاد حلّ لمعضلته. أرقام غائبة والمختصون يؤكدون ارتفاع الحالات لم نتمكّن من الحصول على أرقام تخصّ حالات الانتحار في المجتمع، حيث قابلنا جواب واحد ونحن نطرق أبواب مصالح الشّرطة والدّرك الوطني »ليس لدينا أرقاما عن الانتحار، لم نعد نحصي الظاهرة«، غير أنّ الأرقام التي يطالعنا بها المختصّون تتحدّث عن انتحار جزائريان كلّ 24 ساعة، فيما يتحدّث آخرون عن تسجيل 700 انتحار خلال السنة، أرقام تعكس واقعا مرّا يزيح اللّثام عن حقيقة تلوّح بنزيف اجتماعي حادّ. ومن جهته كشف البروفيسور مصطفى خياطي، رئيس هيئة »فورام« ل»صوت الأحرار« عن تسجيل انتحار 80 تلميذا خلال ثماني سنوات الأخيرة، مشيرا إلى أنّ دراسة حديثة ل » فورام« خلصت إلى تسجيل » ثلاث حالات انتحار كل 24 ساعة في مجتمعنا، ناهيك عن المحاولات التي ينقذ أصحابها من الموت« فالعدد في ارتفاع مطرد حسب محدّثنا. في ذات السّياق كشفت دراسة أعدّتها مصالح الدّرك الوطني أنّ »الشباب الذين تقل أعمارهم عن 35 سنة يمثّلون نسبة 80 بالمائة من المنتحرين في الجزائر« ناهيك عن أنّ مؤشّر الانتحار مرشح، حسب المختصين، للارتفاع في ظل تدهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية، واقع جديد أرعبهم وقد عجزوا عن تقديم تفسير دقيق للظاهرة، واكتفوا بضرورة دقّ ناقوس الخطر اتّجاه ظاهرة آخدة في الارتفاع من سنة إلى أخرى. أغلبهنّ يأخذن سرّهنّ معهنّ إلى القبر فتيات يفضّلن الموت والأسباب تبقى مجهولة حادثة مؤلمة عاشها سكّان حي بلكور الشّعبي، خلال السنوات الماضية، ضحيّتها عشرينية وضعت حدّا لحياتها بمسدّس والدها الذي يشتغل بسلك الأمن، حيث أكّدت مصادر عليمة ل»صوت الأحرار« أنّ الفتاة معروفة بسلوكها الحسن، ولم تكن تشكو من أيّة أمراض نفسية أو عصبية، ولم تظهر عليها أيّة اضطرابات كما أنّها لم تكن تشكو من أمراض أو مشاكل معيّنة قد تفسّر إقدامها على الانتحار رميا بالرّصاص. الضحية عثر عليها ملقاة على الأرض بداخل »بويتة« وهي عبارة عن غرفة صغيرة بأعلى سطح منزل عائلتها، يقال أنّها تلقّت اتّصالا من أحدهم ويجهل إلى حدّ اليوم مصدر ومضمون المكالمة، وبذلك فارقت الضحية الحياة ودفنت معها سرّ انتحارها بطلقة واحدة من مسدّس والدها. »فوزية« تنتحر في »خاطر« بوعلام هي قصّة لا يزال سكّان منطقة أولاد يعيش بولاية البليدة يستذكرون فصولها رغم مرور قرابة الثلاث سنوات على حدوثها، حيث تعود بهم الذّاكرة لذات صباح من يوم الجمعة من شهر رمضان المعظّم، أين استفاقوا على بكاء وصياح اخترق آذانهم فجرا، وهم يصحون على خبر انتحار »فوزية«، أربعينية لطالما أحبّت جارهم »بوعلام« الذي باءت كلّ محاولاته لإقناع والدها بالارتباط بها بالفشل. مقرّبون من الضحية أسرّوا إلى »صوت الأحرار« أنّ الشاب »بوعلام« لم يدّخر جهدا في سبيل نيل رضا والد »فوزية« ودفعه إلى العدول عن فكرة تزويجها لابن »العرش«، غير أنّ الوالد كان لجميع محاولات بوعلام بالمرصاد، ولم يشفع له حتّى جماعة من »صلاّح« المنطقة الذين اجتمعوا بعد صلاة المغرب ببيت العائلة. اجتماع عوّلت فوزية عليه كثيرا في أن يحدث المفاجئة السّارة، غير أنّ آمالها سرعان ما تحوّلت إلى ضغينة وكره لحياة »أبعدتها عمّن أحبّت لسنوات طويلة« فما كان منها إلا أن شنقت نفسها بحبل أحكمت شدّه إلى عمود نصّب فوق سطح منزلهم »العروبي« تاركة وراءها قصّة تهتزّ لها الأنفس ومثالا حيّا لتعنّت والد في رفض تزويج ابنته لرجل صالح تفضيلا لابن العرش، ضاربا قوله صلى الله عليه وسلّم »إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه، إلا تكن فتنة في الأرض وفساد عظيم«. .. »نعيمة« فضّلت الانتحار على إخبار والدتها بنتائج التّحاليل؟ علامات استفهام عديدة تركتها وراءها الشابة »نعيمة« القاطنة بولاية الشلف، عندما أقدمت على قتل نفسها بتناول جرعات زائدة من الأدوية وكميات من سائل مميت، كانت كافية لأن تنهي نعيمة بها حياتها دافنة معها سرّا لم تكتشفه عائلتها إلاّ بعد مرور خمسة أشهر على الحادثة المروّعة. موت »تراجيدي« وقفت عليه عائلتها دون سابق إنذار أو علامات دلّت على وقوعه لاحقا، حيث كانت نعيمة تشكو من آلام على مستوى رأسها وانتفاخ بعينيها، مع الشعور الدّائم بالتّعب، وضع دفع بوالدتها إلى نصحها بزيارة الأطبّاء، غير أنّها لم تعر الوضع أيّ اهتمام وفسّرته على أنّه لا يعدو كونه حساسية مفرطة رافقت موسم الرّبيع. أمام تضاعف حالة نعيمة وإصرار والدتها على زيارة الطبيب، جعلها تخضع للأمر الواقع وتقرّر زيارة مختصّ، طلب منها إجراء تحاليل، أخطرت والدتها فرحا بأنّ نتائجها كانت عادية وقطعت بذلك الشكّ باليقين، بأنها لا تشكو من أيّ عارض، خبر أثلج صدر والدتها بل وجميع عائلتها، ولكنّ نعيمة اقدمت على الانتحار برمي نفسها من فوق جسر، أمام ذهول العائلة والجيران وسكان المنطقة الدّاخلية. وفيما ظلّت اسباب انتحار نعيمة مجهولة طيلة خمسة أشهر، وفسّرت بأنّها ربّما تكون عاطفية تارة أو لعدم إيجادها وظيفة تسترزق منها تارة أخرى، إلاّ أنّ الخبر نزل كالصّاعقة على والدتها وهي تزور ذات المختصّ الذي عاين ابنتها، بعد أن شعرت بدوار لازمها منذ وفاة ابنتها. »كيف حال ابنتك، وهل تحسّن حالها بعد إصابتها بالسّرطان؟« سؤال طرحه الطبيب ووقع كالصّاعقة على الوالدة، وكاد أن يغمى عليها وهي تخبره بأنّ ابنتها ماتت قبل خمسة أشهر منتحرة لأسباب تبقى مجهولة، وفيما حاول الطبيب استدراك ما قاله فهمت والدة نعيمة سرّ انتحار ابنتها التي فضّلت دفن نتائج التحاليل التي خضعت لها معها في قبرها، فكان الموت أهون لها على إخبار والدتها بما تشكو منه ولم تحتمل عيش مضاعفاته لحظة بلحظة. »زوجوني ولاّ نقتل روحي« لا يزال سكّان شارع حسيبة بن بوعلي ببلوزداد يستذكرون حادثة تهديد ابن حيّهم جمال 33 سنة بوضع حدّ لحياته، حيث أدّى رفض عائلته تزويجه ب»جوزيفين« إلى تسلّقه عمودا كهربائيا بمحاذاة منزله العائلي، وأخذ يصرخ »زوجوني ولاّ نقتل روحي«. حادثة أصبحت مثار لتنكيت سكّان الحيّ الشعبي، ورغم ذلك أعرب جمال ل»صوت الأحرار« أنّه ليس نادما على فعلته لكون الحادثة أدّت إلى عدول عائلته عن فكرة رفض تزويجه بالفتاة التي لطالما أحبّها وبنى آمالا عريضة طويلة رفقتها، على اعتبار أنها زميلته أثناء دراسته الجامعية بمعهد العلوم السياسية. تقدّم جمال رسميا لخطبة منيرة التي جمعته علاقة عاطفية بها طيلة أربع سنوات، والخوف يحذوه من رفض والدها تزويجها له على اعتبار أنّه ليس قبائليا، وهو ما أبدت منيرة انزعاجا منه طيلة علاقتهما، جمال الذي كان مرفوقا بوالديه وشقيقته صفع بالرّفض خلال أوّل جلسة تجمعه بعائلة الفتاة التي أحبّها وأحبّته، لأنه ليس قبائلي وأصوله تعود لمنطقة الغرب الجزائري. دور جمال، حسب تصريحات مقرّبين منه، انحصر حينها في التهدئة من روع منيرة خوفا عليها، حيث أدخلتها الحادثة في حرب نفسية كادت أن تصيبها بانهيار عصبي، بينما لم يترك أحدا إلاّ وطلب منه التوسّط لدى عائلتها، محاولات باءت جميعها بالرّفض القاطع الذي تحوّل إلى حدّ الخصام بين العائلتين. وضع تردّى وعاد بالسّلب على نفسية جمال، التي بدأت تتحطّم تدريجيا، بدأت بحالة انعزال تامّ جعله لا يفارق غرفته، إلى أن جاءته البشرى على لسان حبيبته »لقد قبل والدي أخيرا زواجنا« ولمّا سألها عن المعجزة أخبرته قائلة »لقد تسلّقت عمودا كهربائيا وساومت عائلتي إما الموت أو تزويجي بجمال«.