أود أن أسجل بداية أن أكبر وأول عمل إعلامي هام ذو مفاهيم عميقة ورؤية إستراتيجية شاملة لثورة أول نوفمبر الخالدة، وببعد أيديولوجي وطني مستمد من تاريخ ووطنية هذا الشعب دون تحيز أو ميل أو ولاء لا للشرق ولا للغرب، هو البيان التاريخي لثورة أول نوفمبر .1954 الأساسية قادةُ الثورة الستة و منهم محمد بوضياف وديدوش مراد ومحمد العربي بن مهيدي ومصطفى بن بولعيد بأسلوب ثوري واضح، لا يكتنفه غموض ولا مجال فيه للتورية والتأويل . وكما كانت مَقُولةُ الشهيد الرمز بن مهيدي الشهيرة: ارموا بالثورة للشارع يحتضنها الشعب ، كذلك كانت الأفكار الفلسفية العميقة للثورة التي رمى بها قادة الثورة للشعب و للرأي العام الدولي وحتى للمستعمر واضحةً جلية عبر هذا البيان الذي يجسِّد بحق عبقرية كبيرة لقادة الثورة. والحقيقةُ أن الرجل الذي كان وراء الصياغة النهائية للبيان وقام بطبعه والمساهمةِ في توزيعه إلى جانب مئات المناضلين الوطنيين الشرفاء ليلة أول نوفمبر هو الشهيد محمد العيشاوي . ودون الدخول في التفاصيل فإن هذا المناضل الثوري المثقف المتشبع بأفكار الحركة الوطنية والمتأثر بأدبيات حزب الشعب وحركة انتصار الحريات الديمقراطية كان واحدا من رجالات الوطنية المؤمنين بفكرة الاستقلال وأحد المدافعين عنها بفكره و قلمه. فقد كان محمد العيشاوي يعمل دوما على نشر أفكاره وسط فئات عدة من الشعب وخاصة الشباب وبالأخص الرياضيين و الفنانين والصحفيين الجزائريين آنذاك على قلتهم . ويذكر الباحث في التاريخ الأستاذ محمد عباس أن العيشاوي الذي قَدِمَ للعاصمة من بلدة سي مصطفى بولاية بومرداس الحالية بداية الأربعينيات أصبح بفضل نشاطاته في حزب الشعب مسؤولا عن قسمة الحزب بواد كنيس بمدينة الجزائر، ثم ترقَّى ليصبح مسؤول دائرة على مستوى القبة. كان العيشاوي واحدا من المناضلين المولعين بالقراءة و الكتابة، كما كان له حضور صحفي متميز، واهتم بالقضايا السياسية والفكرية مما أهله ليكون ابتداء من 1943 مترجما في نشرية )صوت الأحرار( التي كان الحزب يُصْدِرها آنذاك، قبل أن يصبح أحد المحررين الرئيسيين في صحيفة )الجزائر الحرة( التابعة لحزب الشعب منذ .1949 ومع بروز عصاميته المبكرة فقد شدَّ محمد العيشاوي الرِّحال عام 1950 إلى باريس لدراسة الصحافة بمعهد الصحافة الفرنسي، الأمر الذي أهَّله ليكون أحد الجزائريين القلائل الذين حَمَلوا البطاقة المهنية للصحفي المحترف بعد دراسة دامت ما يقرب من ثلاثة أعوام . وهكذا انتقل هذا المناضل من مجرد راقن على الآلة الكاتبة إلى صحفي متمرس يُسْهِمُ بمقالاته وأفكاره المطالبة بالاستقلال والحرية، وخصوصا بعد احتكاكه بعدد كبير من المناضلين ومن بينهم محمد بوضياف وديديوش مراد وبن مهيدي وبيطاط و غيرهم . وعندما التقى القادةُ الستة للثورة خلال اجتماعهم يوم 10 أكتوبر 1954 بالمرادية قاموا بوضع الخطوط العريضة لبيان أول نوفمبر التاريخي مستعينين أساسا بالأفكار والمرجعية الإيديولوجية والسياسية الواردة خصوصا في لوائح مؤتمر حركة الانتصار في .1953 وفي أعقاب ذلك الاجتماع تم تعيين كل من محمد بوضياف وديدوش مراد للاتصال بمحمد العيشاوي لتكليفه بتحرير الصياغة النهائية للبيان . وقد جرى اللقاء به فعلا في المحل التجاري للمناضل المجاهد عيسى كشيدة بالقصبة السفلى بمدينة الجزائر. وهكذا وبعد الاتفاق على البيان في شكله النهائي كُلِّفَ محمد العيشاوي بطبعه بقرية إيغيل إيمولا بأعالي تيزي وزو بمساعدة مسؤول المنطقةِ الرابعة التي كانت تضم العاصمة ووسَطَ شمالِ البلاد المناضل رابح بيطاط وعددا من المناضلين الآخرين ومن بينهم عمر أوعمران وعلي زعموم . والراجح أن استشهاد هذا المناضل المثقف محمد العيشاوي كان في ,1959 و كان قبل ذلك قد زُجَّ به في السجن من قبل السلطات الاستعمارية لمدة 18 شهرا على خلفية البيان لقي أثناءها مختلف ألوان التنكيل والتعذيب الشديدين . كان بيان أول نوفمبر عبارة عن رؤية إستراتيجية واضحة المعالم سياسيا وعسكريا و دبلوماسيا و إعلاميا من خلال الإعلان عن قيام ثورة شعبية بقيادة جبهة التحرير الوطني وحدها دون منازعٍ آخر لاستعادة الحرية و الاستقلال بعد عُقْمِ جميع التجارب و المحاولات السياسية التي باءت بالفشل مع المستعمر وخصوصا بعد المجازر التي ارتُكِبَتْ في حق الشعب الجزائري في ماي ,1945 وكان البيان بمثابة إعلان ثورة لا هوادة فيها ضد مستعمر غاشم انتهت معه جميع الحلول والمحاولات السلمية، وهو من ناحية أخرى نداء سلم ودعوة صريحة وواضحة للمستعمر عبر تحديد مختلف شروط التفاوض وتحديد معالم المستقبل لعلاقات متوازنة معه تقوم على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. لقد توجه البيان إلى الشعب الجزائري وتوجه ثانية إلى مناضلي الاستقلال والحرية والقضية الوطنية عموما عبر توضيح الهدف الذي كان ينشده أولئك الشبان الثوريون بالسعي لاستعادة الحرية و الاستقلال في إطار الشمال الإفريقي بالاعتماد على الشعب الجزائري الذي أصبح في تلك الظروف مهيأ للثورة و كذا المحيط الدولي من خلال الانفراج الذي كان باديا تلك الفترة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وما خلفته من أثار مدمرة على كثير من شعوب المعمورة . وكان من بين النقاط الأولى التي أبرزها البيان هو السعي لإقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية. وحدد البيان أهدافا داخلية و خارجية عبر تنظيم الطاقات الحية للشعب للتخلص من الاستعمار وعبر سعي دولي لتدويل القضية الجزائرية وهكذا فمع تسارع الأحداث وردود الفعل القوية للمستعمر فإن البيان قد ظل المرجعية الأساسية لتوجه الثورة داخليا وخارجيا، وكان النبراس الذي يُستدل به من قبل رجال الثورة وقادتها سياسيا ودبلوماسيا وإعلاميا وعسكريا . وإلى جانب هذا فإن ما جاء في البيان وما تمخضت عنه الثورة لاحقا من عمليات ميدانية دكت حصون المستعمر وهزت أركانه خصوصا على الصعيد العسكري والأمني قد جعل الشعب الجزائري ينصهر في الثورة ويؤمن بحقيقتها لتغيير سياسة الأمر الواقع التي كانت سائدة من قبل . فقد ذابت مختلف الأحزاب و انصهرت في جبهة التحرير الوطني ، كما أن البيان قد عرَّى سياسة المستعمر الذي وجد نفسه لا يواجه شرذمة أو عصابات إجرامية خارجة عن القانون أو إرهابيين أو فلاقة قادمين من تونس بدعم مصري كما زعمت أبواق الدعاية الاستعمارية الفرنسية، بل وجد نفسه أمام ثورة شعبية كاسحة تريد اقتلاع جذور الاستعمار من الأساس، وبالأخص بعد الهجومات الكاسحة في الشمال القسنطيني في العشرين أوت .1955 لقد أردْتُ بهذه المقدمة أن أؤكد على حقيقة ناصعة لطالما أغفلها البعض وهي أن بيان ثورة غرة نوفمبر قد بلور أساسا الخط الإعلامي الواضح للثورة مثلما رسم استراتجياتها الشاملة في شتى المجالات مما أفضى في النهاية إلى استعادة الاستقلال وتحرير الشعب والوطن من براثن محتل حاول منذ وطئت أقدامه أرض الجزائر إبادة الشعب وتجهيله والقضاء على شخصيته العربية الأمازيغية المسلمة . لم تعتمد الثورة في إستراتجيتها الإعلامية على وَسَائلَ تقليدية بحتة من منشورات و صحافة مكتوبة و إذاعة و غيرها من الوسائل التي لم تكن متاحة في بداية الأمر، و لكن الثورة كانت بعبقرية قادتها المتميزين سبَّاقة إلى ما يُعرف بوسائل الاتصال المباشر، وهي أنجع الوسائل وأكثرها تأثيرا وصدى في نفوس مستقبليها . من المرشد إلى المحافظ السياسي صحيح أن بيان أول نوفمبر قد تم توزيعه على شكلِ منشورات بشكل واسع، و لكن اتساع رقعة الثورة وانتشارها وردود الأفعال العنيفة من قبل السلطات الاستعمارية وكذا الدعاية المضللة التي صاحبت اندلاع الثورة قد جعلت قادة الثورة يسارعون إلى تعيين عدد من المناضلين المجاهدين المتميزين بحسن سلوكهم وأخلاقهم وإتقانهم لفن الخطابة وحسن الاتصال والمعاملة الحسنة مع الشعب والقادرين على بث الدعاية لصالح الثورةÅ في صفوف الشعب وتعبئته لصالح الثورة من جهة ومواجهة الدعاية المغرضة للمستعمر وإحباط معنويات عساكره وقادته وسياسييه من جهة أخرى، وفك الارتباط بينه وبين تعاطف أو تأييد دولي. وهكذا جرى استحداثُ ما عُرِفَ بالمرشدين السياسيين للثورة قبل أن تتحول التسمية لاحقا وخصوصا بعد مؤتمر الصومام إلى المحافظين السياسيين. وقد كانت هذه المَهَمَّةُ السياسية الإعلامية الدعائية والعسكرية في نفس الوقت أحد العناصر الأساسية الفاعلة في مسار الثورة. فمن مهام المحافظ السياسي الذي أقلق المستعمر وكان يبث جواسيسه في كل مكان للقبض عليه أو قتله والحصول على الوثائق التي بحوزته بَثُّ الحماس الفياض في أوساط الشعب عن طريق الخُطَبِ التي كان يلقيها ويوضح فيها أهداف الثورة من أجل الحرية والاستقلال ، مثلما يفضح سياسة العدو وتحركاته وحرب الإبادة التي يخوضها ضد شعب أعزل، كما كان للمحافظين السياسيين دور بارز في تنظيم الشعب وجمع المال والمؤونة لصالح الثورة وفضح المتخاذلين والعملاء، ومن ثمة تداول المعلومات الشاملة عن العدو مما يفيد جهاز المخابرات التابع للثورة من جهة ويجعل المحافظ السياسي في نفس الوقت على اطلاع كامل بكل المعلومات التي تستفيد منها قيادة الثورة في أي عمل سياسي أو عسكري أو دعائي أو دبلوماسي . وإلى جانب هذا فقد بدأت قيادة جبهة التحرير الوطني منذ مطلع 1955 خصوصا في تنظيم عمل موثق عن طريق استحداث صحافة تعبر عن مواقف جبهة التحرير الوطني و تفضح سياسة العدو و ما يقوم به من قمع وتنكيل، بل وحرب إبادة ضد الشعب الجزائري . وبعد ظهورعدة منشورات من بينها الوطني والجبل إلى جانب المنشورات الأخرى التي كانت الجبهة توزعها على نطاق واسع خاصة في المدن حيث يقوم المناضلون بتوزيع هذه المنشورات في أوقات معينة خاصة عند ساعات الازدحام في منتصف النهار ،و ابتداء من الساعة السادسة مساء أو ما بعد العاشرة ليلا عندما تَغْفَلُ أعين العدو، فإن الجبهة أصدرت أول صحيفة وهي المقاومة بتطوان في المغرب في 22 أكتوبر 1955 إلى جانب طبعات أخرى صدرت في تونس و باريس . ولهذا تم تكريس هذا اليوم كيوم وطني للصحافة يحتفل به كل عام بقرار من رئيس الجمهورية منذ العام الماضي 2013 . وقبيل مؤتمر الصومام و في شهر جوان 1956 صدرت صحيفة المجاهد بحي القصبة العتيق حيث كان يشرف عليها عدد من قادة جبهة التحرير الوطني و من بينهم ديدوش مراد و محمد العربي بن مهيدي الذي كتب يقول في العدد الثاني: إن ثورة فاتح نوفمبر 1954 التي قامت بها قيادة جبهة و جيش التحرير الوطني عبارة عن إرادة شعبية جبَّارة لتحقيق الحرية و الاستقلال.