يقول لنا وهو يحاورنا: أي من الأزمنة مجحف في حق أهله، زمنكم هذا؟ أم الزمن القديم؟ الذي كنا نخرج فيه مع معلمنا إلى النزهة نلاحق الفراشات ونعدو وراء الخرفان والجديان والعجول، ونستقبل بغبطة وسرور هدايا الريفيين من الثمار ومن الألبان• نلهو ونلعب في حقولهم، في بساتينهم، نصنع الباقات من الزهوز الطبيعية المختلفة الألوان والأحجام والأشكال، نعود ببعضها إلى حجرة الدراسة إذ تكون موضوع الدرس، ونرجع بها إلى البيوت أحيانا فنهديها إلى من الجنة تحت أقدامهن من الأمهات• وقد كان الزمن كافيا للدروس وللتجوال وللبيت وللمراجعة والمطالعة، وكلنا مشتاق إلى الآخر يدفعه إليه حنان صادق وعاطفة جياشة، الكل في علاقة حميمة لا تنفصم عراها مع الآخر، ليس بيننا كباني البشر فحسب، إنما بيننا وبين ما حولنا أيضا وبخاصة المدارس والبيوت والحقول والغابات، والكل آمن، الكل مؤتمن، الكل مطمئن، لا كراهية بيننا ولا بغضاء، ولا شحناء، لا غل ولا خطر يداهمنا من أحد، ولو في الغابة، التي أصبحت اليوم بدل ما كانت مجالا فسيحا يبعث على الراحة والاستقرار، صارت مرتعا للجريمة ومقصدا لارتكاب المحرمات وبوتقة استفحال الفواحش• كنا نخرج راجلين أو على متن شاحنات عاريات من كل غطاء في حر الشمس أحيانا وتحت وابل الأمطار أحيانا، وفي مواجهة العواصف أحيانا أخرى، متطوعين، ننظف الساحات والشوارع والرحاب، نغرس الأشجار في الأرصفة وفي الأحراش في سفوح التلال والجبال وعلى قممها وبين صخورها، نستعين بما يلزم من (الأسلحة البيضاء) دون أن نحولها إلى وسيلة بطش بالبشر طعنا أو نحرا أو ضربا للأعناق وتقطيعا للأطراف• لا أحد فينا يفكر أن مثل هذه الأدوات الحديدية تصلح لغير الأعمار وجلب السعادة للناس، كنا نستعملها ونحن نمرح ونفرح، كل منا وكل فينا يحاول أن يسابق الهواء وهو يهوى أن ينافس الطيور، جدلا يكاد من الحبور أن يطير• ونحن الذين نكاد لا نجد قطعة رغيف يابسة، قد تكون في أغلب الوجبات دون حساء أو (مزاوجة)، ونجزم أنه لا تنتظرنا في منازلنا قطعة من أي من القماش تعوض تلك التي نستر بها عوراتنا باحتشام، لكن السعادة تغمرنا وأملنا في الحياة يزداد ويكبر مع سنين العمر وأيامه، فلا هجرة سرية بيننا ولا انتحار، صحيح الفقر متفشيا ولكننا نقاتله، المرض يفتك ولكننا نجابهه، الأمية مستفحلة لكننا نصارعها فندمي كل مفصل فيها بسلاح الأدب والفطنة وثقافة المحبة والتآخي والتضامن والتآزر والإيثار فحب الوطن• أتدرون؟ لو سحبنا من زماننا ما أفقدنا الاستعمار من حرية، لكانت غاباتنا إذاك أكثر رأفة من مدنكم، علما أن حتى غاباتكم اليوم تصبح وتضحى وتمسى قصابة يقطع فيها لحم البشر كما يقطع الجزارون لحم الغنم بالسكاكين•• !؟