من يتذكر عملية "مونرو" بالأوراس؟ تسجيل حميد طاهري أطلق المستعمرون الفرنسيون تسمية "عيد القديسين الأحمر" على ليلة اندلاع ثورة أول نوفمبر 1954، في إشارة إلى العمليات الدامية التي وقعت في تلك الليلة، ومنها بالخصوص قصة الحافلة التي هوجمت في مضيق تيغانيمين بجبال الأوراس، والتي كانت بمثابة إشارة اندلاع الكفاح المسلح في المنطقة، وتميزت عن غيرها بمساهمتها في إيقاظ الضمائر وإثارة ضجة في الصحافة الإستعمارية. في الحافلة أصيب قايد ومعلمان قادمان من الضاحية بنيران رشاش كان يستهدف الحاج صدوق، على الفور مات المعلم غي مونرو وأصيبت زوجته جاكلين بجروح ، هكذا يخفف المدونون من حدة تلك الأحداث، بيد أن هذه الحادثة تؤرخ لانطلاق العمليات العسكرية في الجزائر، حيث يتجلى تأثيرها على العدو في تصريح منداس فرانس يوم 12 نوفمبر 1954 أمام المجلس الفرنسي:" لن يكون أمام الحكومة، لا تردد ولا تسويف، ولا كيل بمكيالين في اتخاذ تدابير لضمان الأمن واحترام القانون، أؤكد بأنه لا مجال للمقارنة مع تونس والمغرب، فالأمر هنا أخطر لأنه يتعلق بفرنسا". في قلب الأوراس حيث الشعاب تخترقها الوديان في تضاريس متعرجة، تقطع حافلة قديمة بصعوبة الطريق الملتوية، كل المقاعد يجلس فيها فلاحون ذاهبون إلى السوق، أغلبهم يرتدي قشابية من الصوف، والبعض الآخر يلبس حايك أسود "ملاية"، بينما تميز ثلاثة أشخاص عن الجموع، رجل بلباس رث هو الحاج صدوق قايد بلدة مشونش، وإثنان أوربيان، هما السيد مونرو وزوجته، ومعلم ومعلمة حديثا عهد بالزواج، جاءا إلى الجزائر منذ شهر، استقرا في قرية تيفلفل واندمجا في وقت قصير في وسط الشاوية المتواجدين فيما بين بسكرة وأريس. كانت الساعة السابعة وربع من صباح يوم أول نوفمبر، في الكيلومتر 31 على الطريق الوطني عندما وقعت فرملة عجلات مفاجئة، وعلا صراخ وعويل، مسلحون يقطعون الطريق، إثنان منهم يقفزان إلى داخل الحافلة، بينما يطل خارجها رجال من بين ركام الحجارة، في الوقت الذي كان فيه إبراهيم البالغ من العمر 18 سنة يراقب المشهد، والده الهاشمي مناضل وطني قريب مصطفى بن بولعيد، كان يستغل خط نقل المسافرين الذي يربط بين بسكرة وأريس، أسندت إليه في ذلك اليوم مهمة خطيرة هي سياقة الحافلة التي ستصنع الحدث المتصدر في الغد الصفحات الأولى لجميع الجرائد. بعد مضي أشهر بين محافظات الشرطة والمحاكم، انضم إبراهيم حليمي ووالده وأخوه رشيد إلى صفوف جيش التحرير الوطني، أما البقية من المسيرة فلم تكن نهرا هادئا بالنسبة لإبراهيم، ذلك المراهق صاحب 18 سنة إبن مدينة بسكرة الذي يبلغ اليوم من العمر 74 سنة، أراد أن يروي أطوار الهجوم على الحافلة، وملابسات التحاقه بمعاقل الثورة، حيث قال حين قابلناه: قبل أول نوفمبر 1954، كان والدي حليمي الهاشمي بن الدراجي وطنيا متحمسا، على اتصال دائم بصديقه مصطفى بن بولعيد وشيحاني بشير، في طريق عودتنا رفقة العائلة من تلمسان إلتقينا على بعد 25 كلم من بسكرة في المكان المسمى جسر الغزلان، الرباعي: بن بولعيد، بن مهيدي، شيحاني وبوضياف، وكانت سيارتهم من نوع سيمكا عاطلة، تحادث والدي معهم طويلا بينما دعي شقيقي الأكبر رشيد لإصلاح العطب، حددنا موعدا في المنزل العائلي لتناول الغداء في غياب بن مهيدي، الذي ذهب لقضاء الليلة عند شقيقته انفيسة، وكان ذلك في 27 سبتمبر 1954، طالت المناقشات، حيث كنت أشك في أن شيئا ما يكون قد تم تحضيره عشية أول نوفمبر، كان يوم الأحد، انفرد بي والدي جانبا وقال لي أنت الذي ستقود الحافلة غدا بدل السائق المعتمد كرباش أحمد، وأخبرني بما سيحدث، لا تقل أية كلمة لشقيقك الصغير مصطفى، قابض الحافلة، كنت مذهولا، لأني لم أكن أملك رخصة لسياقة حافلة النقل العمومي، أردف والدي قائلا سوف تلتقي المجاهدين فلا تخش أي خطر. على متن الحافلة يوم أول نوفمبر 1954، على الساعة الخامسة صباحا انطلقنا نحو أريس عبر أمشونش، في تلك البلدة صعد القايد صدوق الحافلة وجلس بجانبي، في "تيفلفل" ركبت عائلة مونرو الحافلة، وعند وصولنا إلى المكان المحدد قبل النفق رأيت 15رجلا بلباس موحد على حافة الطريق، كانوا مثلما وصفهم والدي، أوقفت الحافلة، في داخلها صاح مسافر خائفا ها هم فلاقة تونس، حاول القايد بجانبي طمأنته بقوله: لا يوجد فلاقة في الجزائر، نزل من الحافلة وشرع في محادثة أحد المهاجمين، من أنتم؟ من أين جئتم وماذا تريدون؟ قائد المجموعة الكومندو شيحاني رد إليه الكرة: من أنتم حتى تطرحوا علينا هذا السؤال؟، تحمل القايد قليلا ثم انطلق قائلا بنبرة مطمئنة مليئة بالإدعاء: أنا الضابط صدوق، قايد دوار امشونش، في تلك اللحظة أرغمه رئيس المجموعة على حمل الأمتعة وأن يتبعه، عند صعود القايد الحافلة أخرج مسدسا من محفظته، رأى الجندي المترصد المشهد وأطلق رصاصتين من بندقية صغيرة على ظهر القايد أسقطتاه، أصيب بجروح بليغة توفي على إثرها بساعتين في مستشفى أريس، وتحت الصدمة فرّ المسافرون ومعهم شقيقي مصطفى، مونرو وزوجته انسحبا من مقدمة الحافلة إلى المقاعد الخلفية، لكن جنديا كامنا لاحظهما فأمرهما بالنزول، رئيس المجموعة كان يتحدث معهما عندما أطلق جندي رصاصة في ظهر المعلم مونرو، فوجيء بالأمر، طلب الكومندو وقف الرماية لكن رصاصة طائشة انطلقت لتستقر في فخذ السيدة مونرو، المعلم ضعيف البنية نزف دمه وهلك، وكرد فعل انتقامي تم حجز الحافلة وألغي خط النقل على غرار خط بن بولعيد. بعد فترة طويلة من التحرش بي والتردد على محافظة الشرطة والمحكمة، قررت الإلتحاق بالثورة بعد أن ترسخت قناعاتي .يوجد إبراهيم في الولاية الخامسة بالمنطقة الثامنة، تحت إمرة القائد سي ناصر، بقاعدة بن مهيدي لإنشاء مصلحة فاعلة، يقودها سي الغوثي تسمى SLM.EMG تفككت العائلة، الوالد ذهب إلى المغرب، ثم التحقت به، فيما التحق شقيقي رشيد بالكفاح ليستشهد في ساحة الشرف عام 1961 أما كيف كان المناخ السياسي في بسكرة مع بداية ثورة التحرير، فقد كان سي الحواس يقود تنظيم عروس الزيبان ويتلقى التوجيهات من الحركة الوطنية المسلحة MNa، في حين كان الهاشمي حليمي، سي عبد الرحمن بركات، وبوفروة طالب قد قرروا الاتصال بشرقي إبراهيم في العاصمة، حيث كان هذا الأخير ناضل في بسكرة وواصل تأدية مهام وطنية معتبرة في العاصمة، نجح شرقي ابراهيم في إقناعهم باتباع سبيل جبهة التحرير الوطني، وزود ضيوفه بآلة رونيو وخواتم، أما الهاشمي مرفوقا ببوفروة ومناني نور الدين فقد جاؤوا بعدها إلى العاصمة لمقابلة بن مهيدي، انطلاقا من هنا جرى اتصال بسي الحواس قرب باتنة، بينما تم تكليف عميروش بالتنظيم وبتسوية النزاع المتفاقم مع عجول عجول الذي سمم الجو، وبذلك اختار مناضلو بسكرة ذوي النزعة المصالية الانضمام إلى جبهة التحرير الوطني. في الجزائر كما في المغرب، على غرار عدد هام من الوطنيين، حرصت دائما على القيام بالمهام التي أسندت إلي بالتزام وإخلاص للقضية الوطنية المقدسة، لم يتملكنا آنذاك سوى هدف واحد هو استقلال بلادنا مهما كان الثمن، في المغرب كذلك كان لي الشرف أن ألتقي شخصيات لعبت فيما بعد دورا كبيرا في حياة بلدنا. عند الاستقلال، تم تكليفي بنقل السلاح الموجود آنذاك بالحدود الغربية، وعند دخولي البلاد استقلت من الجيش برتبة ملازم أول للتفرغ لشؤوني العائلية، التي تأثرت بوفاة والدي الهاشمي في المغرب سنة 1961، وباستشهاد شقيقي في نفس العام. قريبا من الناس كان إبراهيم قائدا وفيا للإتحاد الرياضي لبسكرة الذي دافع عنه بشجاعة لدى الهيئات الرياضية، يتحدث إبراهيم بلا أنانية عن قلة العناية بالنضال الرياضي، في مشهد طغى عليه اللهث وراء المال، وكما يقول لقد تبدلت الأزمنة وكذلك الذهنيات، كان ابراهيم حليمي دائما في خدمة بلده، ونظرا لشخصيته المحترمة طلب منه أثناء تشريعيات 1982 أن يتدخل لإطفاء نار الفتنة في مدينة أولاد جلال التي عاشت حالة حصار عقب سجن العشرات من المتظاهرين الغاضبين، وقال في هذا السياق كان علي أن أحافظ على التوازن بين السلطات والسكان الغاضبين ببذل قصارى مجهوداتي، اعتمادا على علاقاتي من أجل حل الأزمة، والحمد لله فقد نجحت في إيجاد المخارج للأزمة. يغير إبراهيم فجأة لهجته عند إثارة خصوماته مع الحكم في تلك الفترة إذ قال في سنة 1966 أراد وزير النقل إلغاء خط المواصلات الرابط بين الجزائروباتنة لمنحه لقايد قديم، وبقي الخط معلقا مما عطل أعمالنا، وزاد من خسارتنا محاولة انقلاب الزبيري عام 1967، حيث بقينا دون نشاط لعدة شهور، إنها أحداث مؤثرة- يقول- دون الإشارة إلى أي من المسؤولين الذين يعرفون بالتنكر للجميل، اليوم تبدلت الشيم ولم تبق الأخلاق هي نفسها، إن الأهم بالنسبة للشعب هو أن تقول له الحقيقة، نحن في حاجة إلى السلم، الأمن، العدالة والحرية، وبدون ذلك لا يمكن أن تكون هناك كرامة فما بالك بالسعادة والرخاء، إن تاريخ بلادنا المكتوب بدم الشهداء يجب أن يكون حقيقيا، العادلون زرعوا، الشجعان تعبوا، والفاسدون ربحوا، إنه الواقع المؤسف. ولد إبراهيم حليمي في12 ديسمبر 1935 ببسكرة، درس في مدرسة الأهالي إلى غاية حصوله على شهادة نهاية الدراسة، في سن ال 18، انضم إلى المؤسسة العائلية للنقل العمومي فاشتغل سائقا لفترة قصيرة في الحافلة الرابطة بين بسكرة - امشونش - أريس. والده الهاشمي مسؤول عسكري ومدني لبسكرة ووطني، صار زعيمه الروحي، صديق لبن بولعيد وسي لخضر اللذين استوحى منهما القيم الوطنية عقب حادثة الحافلة، سافر إبراهيم إلى المغرب، حيث اندمج في الولاية الخامسة لجبهة التحرير الوطني، وخرج منها ضابطا، وتم تكليفه عند الاستقلال بنقل سلاح جيش التحرير الوطني من المغرب، غادر الجيش لإنشاء المؤسسة العائلية، إبراهيم عضو في جمعية أخوة التي تضم 9 أشخاص، منهم مصطفى الذي يعيش في فرنسا. ترجمة ع مغيش