كان القدامى إذا أرادوا أن يدمغوا أديبًا بتهمة أو يسخروا منه بقول، يقولون عنه: أدركته حرفة الأدب، وفي هذه المقولة تعريض بأن الرجل حلت به لعنة أو أصيب بعته في مداركه العقلية أو مسه طيف من جنون، وقد يفهم من ايراد هذا القول الكناية عن ضيق الحال واليد والعوز، فأهل العلم والثقافة على قدر امتلاء عقولهم فإن جيوبهم خاوية، وموارد عيشهم ضيقة، نسوق هذا الكلام في ذلك الوقت، أما في زماننا هذا فكثير ممن ينتسب بالحق وبالباطل للعلم والأدب والثقافة، قد تعلم كيف يقايض بضاعته بدراهم معدودات. والحقيقة أن حديثي هنا، لم يأت لرصد هذه الظاهرة من منظور أن الثراء المعرفي يسوق في البيئات التي لا تقدر قده إلى الإفلاس المادي، بل أن ما لفت نظري هو كلمة (حرفة) وهي تقرن بالأدب، ومصطلح الأدب في ذلك الزمن كان أقرب إلى معنى الثقافة في عصرنا الحاضر، بأن يعرف الرجل، كما قال توفيق الحكيم، شيئا عن كل شيء ويعرف كل شيء عن شيء، وهي نوع من الرقي العقلي الذي تحرص المجتمعات الراقية في زمننا على تكثيره والعناية به، فيما يعرف بالثقافة العامة غير المتخصصة. وقريبا من هذه السخرية من حرفة الأدب، كان آباؤنا إلى زمن قصير يسخرون من السياسة، فإذا أرادوا تسفيه رأي أو تكذيب متحدث، قالوا عنه: حديث (بولتيك)، وتلفظ بطريقة فيها ازدراء وباللغة الأجنبية فالبوليتيك وإن كانت ترجمة لكلمة السياسة، فإنها تأخذ في هذا السياق دلالة أخرى فيها لمز وهمز، وتحقير لشأنها، ولعلها هي السياسة التي استعاذ منها الامام محمد عبدو في قوله: لعن الله السياسة، فصورة السياسي في الضمير الجمعي هي صورة المخادع، الذي لا يعرف صدقه من كذبه، وجده من هزله، وحقائقه من أباطيله. ولأجل تجاوز هذه المعضلة، تحولت السياسة في المجتمعات الديمقراطية إلى حرفة، لها أصولها ومنهاجها، ويتدرب على ممارستها في مدارس الأحزاب السياسية، حيث يدخلها مئات وألوف لكن يتخرج من بينهم فئة تفرز مع الأيام، مؤهلة للقيام بوظيفة العمل السياسي، فالسياسية ليست عملاً إداريا يترقى فيه الموظف بالأقدمية أو المحسوبية، فهناك كفايات ومهارات ومواهب تبرز، وتتصدر العمل السياسي، وفق رؤية ومنظور يخدم مصالح البلاد والعباد. للأسف، كثيرا ما نرى في بلادنا شخصيات إدارية، ترقت في مسار عملها إلى مناصب تنفيذية عليا كالوزارة، ثم تدرك هذه الشخصيات أن العمل في هذه الوظائف يحتم على صاحبه امتلاك رؤية سياسية، فالوزارة ليست إدارة تعنى بالتسيير التقني لقطاع ما، ومن دون هذه الرؤية يصبح أداء الوزير لا يختلف في شيء عن منصب الأمين العام في قطاعه، وفي هذه اللحظة الفارقة يجب الاختيار بين الاستقالة أو الانخراط في العمل السياسي بأثر رجعي. هذا الانخراط المتأخر في العمل السياسي، يشبه كثيرا حالات التسوية الإدارية لملفات بعض الموظفين، لكنه في هذه الحالة يختلف بسبب مآلاته وتداعياته، إذ المفروض أن لا يصل إلى تلك المناصب في الحالات الطبيعية إلا من تخرج من مدرسة سياسية، ويستحسن أن يكون على دراية بتقنيات العمل في القطاع الذي يوكل إليه، أما أن يولد كائن سياسي كتسوية لوضعه الإداري في منصب هو بطبيعته سياسي فهذا هو عين التشويه، لأن صاحبه لا يمكنه أن يستدرك ما فاته في مجال التدريب على العمل السياسي، كما أنه ينتحل صفة غير صفته.