انتقل إلى رحمة الله تعالى الأستاذ الكبير والصحفي القدير والإعلامي اللامع، حسنين هيكل، الذي تألق اسمه وسما شأنه وعلا مقامه في عالم السياسة والإعلام عبر قارات العالم لمدة فاتت 70 سنة. إن الأستاذ الكبير هيكل يشكل ظاهرة ثقافية وإعلامية فريدة ومتميزة، فقد بدأ هذا الرجل مسيرته في ميدان الصحافة وعمره لا يتجاوز 19 سنة صحفيا في جريدة "الإيجييشيان جازيت" وظل طيلة 74 سنة مواظبا على الإنتاج والعطاء دون توقف.
يحكي الأستاذ هيكل بأن أول درس تلقاه في الصحافة كان على يد أستاذ إنجليزي شهير، هو عبارة على عنوان مركب من 6 كلمات هي " يا إلهي الملكة حامل فمن فعلها؟". ويقول المرحوم أن الأستاذ الإنجليزي شرح باستفاضة معاني هذه الكلمات التي تتضمن ثلاثة عناصر أساسية كفيلة بالإثارة الإعلامية، وهي "الدين والسياسة والجنس"، وهذه هي المواضيع الأكثر حساسية وجاذبية للقراء وضمانة للرواج الإعلامي. ساح هيكل في الأرض وجال العالم كله وقابل معظم زعمائه وحاورهم جميعا من إيزنهاور إلى تشرشل إلى دوغول وإينشتاين والخميني ومصدق. عمل في روز اليوسف وأخبار اليوم وآخر ساعة وأصبح مقربا جدا من الرئيس جمال عبد الناصر وربطت بينهما علاقة حميمة قوية، وأضحى هيكل منظر ثورة 23 يوليو ، فهو الذي كتب فلسفة الثورة الذي صدر باسم عبد الناصر، كما أصبح هو كاتب خطبه وهو من خط خطاب التنحي المؤثر، الذي ألقاه الرئيس جمال عبد الناصر، مساء يوم 9 جوان 1967 في أسوأ لحظات الهزيمة وخرج إثره ملايين المصريين زاحفين إلى شوارع القاهرة، تائهين وهاتفين بحياة الرئيس، مطالبين بعودته إلى موقعه لمواصلة المعركة، كما أن الأستاذ هيكل هو الذي كتب التوجيه الاستراتيجي لجيش مصر، عشية حرب أكتوبر 1973 بطلب من الرئيس السادات. اشتهر الأستاذ هيكل وذاع صيته بمقاله الأسبوعي الذي يحمل عنوان "بصراحة"، الذي كان ينشره في صحيفة الأهرام كل يوم جمعة وكان ساسة العالم يترقبون بلهفة صدور هذا المقال ليستشفوا من ثنايا التوجيهات المحتملة لسياسة عبد الناصر المقبلة، وكانت أغلب إذاعات العالم تذيعه وتعيد قراءته مرات عديدة. لقد أصدر الأستاذ هيكل أول كتاب له بعنوان "إيران فوق بركان" وغطى معظم حروب العالم والنزاعات بين الدول، فكتب عن حرب فلسطين والبلقان والحرب الكورية وجلس مع الخميني في الأرض بباريس قبل عودته إلى إيران في فيفري 1979 وألف عنه كتابا بعنوان "مدافع آية الله الخميني" وقد وصف هيكل هذا الأخير بأنه عبارة عن رصاصة انطلقت من القرن الأول الهجري، واستقرت في أواخر القرن العشرين. لقد قال هيكل، وهو عل حق، أنه ولمعرفة ما يجري في إيران بعد قيام الثورة، ينبغي الوقوف بدقة على مجريات وخلفيات وملابسات الفتنة الكبرى، التي حدثت في النصف الأول من القرن الهجري، من مصرع عثمان إلى مبايعة علي إلى معارك الجمل وصفين والنهروان وتحكيم أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص، وقد نصح الساسة الغربيين بألا يتعاملوا مع الخميني بقواعد الأعراف الدبلوماسية المعتادة، بل عليهم أن يتعمقوا في دراسة التاريخ الإسلامي خاصة ما يتعلق منه بالفرق الإسلامية. لقد شهد هيكل حلقات الخميني في باريس، ويحكى أن هذا الأخير مغرم في كلامه باستعمال المصطلحات القرآنية، كالاستكبار والطواغيت والفساد في الأرض ورؤوس الشياطين، ومن أطرف ما يحكى في هذا الكتاب أن التراجمة الذين يقومون بترجمة كلامه يعانون معاناة كبيرة وكثيرا ما يقفون عاجزين في ترجمة بعض المصطلحات، فجريمة الفساد في الأرض ترجمها مرة صحفي جريدة لوموند ب (La corrUption de terre) برشوة الأرض، والحال أن هذه العبارة الفرنسية لا تفي بالغرض المطلوب، فمدلول الفساد في الأرض في الفقه الاسلامي واسع ويشمل العديد من الجرائم، كما يذكر بأن التراجمة كثيرا ما احتاروا في ترجمة "كشجرة الزقوم طلعها كأنه رؤوس الشياطين"، فترجمة رؤوس الشياطين لا تؤدي الألفاظ الفرنسية معناها الإسلامي المطلوب. ظل هيكل رقما فاعلا في السياسة المصرية خلال عهد عبد الناصر، وقد طور جريدة الأهرام التي ترأس مجلس إدارتها لمدة 17 عاما، فأصبحت مصنفة ضمن الجرائد العشرة الكبرى في العالم، وشيد مقرا فخما يليق بمقام مؤسسة الأهرام وسمعتها، واستقطب للكتابة فيها أبرز أدباء مصر وكتابها من توفيق الحكيم إلى نجيب محفوظ وأحمد بهاء الدين ولطفي الخولي وبطرس غالي وأسامة الباز، وعبد الوهاب المسيري وكل كبار كتاب مصر ومثقفيها وأسس مركزا للدراسات الاستراتيجية، ضم إليه وجمع فيه كل كفاءات مصر وعلمائها، ولما زار المرحوم القذافي القاهرة، طلب أن يزور مؤسسة الأهرام وعقد جلسة مع هؤلاء الكتاب وانبهر بمستواهم العلمي وعندما التقى الرئيس السادات أشار عليه أن يستعين بهؤلاء في إدارة شؤون البلاد، فضحك الرئيس السادات. وعندما قرر الرئيس عبد الناصر في بدايات 1970 استكمال بناء حائط الصواريخ على الضفة الغربية للقناة في غفلة من العدو، عين الأستاذ هيكل وزيرا للإعلام وذلك للتمويه على العدو الإسرائيلي وإلهائه إعلاميا بأشياء أخرى، وبالفعل نجح هيكل في المهمة وعتم على جهود الجيش المصري، الذي انهمك في بناء حائط الصواريخ، الذي بفضله تمكن الجيش المصري من عبور القناة في أكتوبر 1973، كما كلفه الرئيس عبد الناصر في وقت ما بمهام وزارة الخارجية التي أدارها باقتدار، لكن بمجرد وفاة عبد الناصر قدم استقالته من وزارة الإعلام وطلب منه الرئيس السادات مواصلة المهمة إلى حين الانتهاء من الانتخابات الرئاسية، وتفرغ لإدارة مؤسسة الأهرام. كان المرحوم هيكل قريبا أيضا من الرئيس السادات، يقدم له الاستشارة ويمحض له النصح ويكتب له خطبه، وقد كتب بقلمه التوجيه الاستراتيجي العسكري لحرب أكتوبر 1973، لكنه سرعان ما اختلف مع السادات في كيفيات التعامل مع نتائج الحرب واستغلالها سياسيا وفي تسيير المفاوضات وإدارتها، ورفض أن يضع السادات مصير الحرب في يد الأمريكان ووقف ضد مقولته 99 بالمائة من الأوراق في يد الأمريكان، فكتب مقاله الأسبوعي "اللاسلم واللاحرب" وكان آخر مقال أسبوعي له قبل إنهاء مهامه في فيفري 1974 "البريق والظلال". لقد عرض عليه الرئيس السادات بعدما قرر إخراجه من الأهرام منصب مستشار له لشؤون الأمن القومي وأصدر قرارا رئاسيا بذلك وقال له ستكون "كيسنجر بتاعي" لكن هيكل رفض المنصب وصرح بأنه سيتفرغ لكتابة كتبه، وأنه سيظل مقيما في مصر ولن يبرحها ولا يرضى بأن يكون له لا منزل ولا قبر خارج مصر. تدفقت كتب الأستاذ هيكل بعد مغادرته مؤسسة الأهرام بغزارة وصنف العشرات من الكتب في الصحافة والسياسة والاستشراف والعلاقات الدولية والأزمات العالمية والأمن القومي وفي سنة 1984 أصدر كتابه "خريف الغضب" الذي تناول فيه جذور عائلة الرئيس السادات وسيرته ومساره وطريقة تفكيره وكيفيات إدارته لشؤون الحكم، كما فصل فيه الحديث عن التنظيم الجهادي، الذي دبر عملية اغتيال السادات، وتطرق إلى اعتقاله ليلة 3 سبتمبر 1981 ضمن ما يقارب 3000 شخصية من نخبة مصر المنتمية لمختلف التيارات والديانات والتوجهات. إن الفقيد الغالي أطل علينا منذ عدة سنوات بسلسلة حلقات في أحاديث شيقة في السياسة والصحافة والصراعات السياسية، كما أنه ومنذ مدة ليست بالقصيرة يطل علينا من حين لآخر من قناة C.B.C مع الإعلامية لميس الحديدي في حديث عنوانه "مصر أين.. وإلى أين؟"، يتناول فيه بالتحليل والتقييم مختلف القضايا الراهنة. زار هيكل الجزائر في جوان 1975 ورافقه في تلك الزيارة الصحفي القدير سعد بوعقبة وقابل الرئيس بومدين ثلاث مرات، لكنه لم يكتب عن تلك المقابلة شيئا إلى أن وافاه الأجل. كان هيكل أول شخص يقابل الضباط الشباب الذين انقلبوا على الملك إدريس رحمه الله في الفاتح سبتمبر 1926 وقد أوفده إليهم الرئيس عبد الناصر، بطلب منهم ووصف في كتاباته وأحاديثه ذلك اللقاء. ويحكي سفيرنا بالقاهرة الأستاذ عبد القادر حجار بأن الأستاذ هيكل رحمه الله تألم شديد الألم لما حدث خلال المقابلة الكروية بين مصر والجزائر في سنة 2009 وأنه قدم اعتذاره للشعب الجزائري عما حدث. لقد غادر الأستاذ الكبير دنيانا دون رجعة، وهو ظاهرة لا يجود بها الزمان على الأمم والشعوب في كل الأوقات ومن الصعب تكررها، وشبه أكيد أنه لن يبرز في عالمنا العربي من سيخلف هيكل في سعة علمه وفراسته ودقة تحاليله وقوة استشرافه وسداد رأيه وصواب نظريته لعقود من الزمن. يحدثنا التاريخ عن عبقرية زرياب في الغناء والموسيقى، وقد هلك منذ ما يزيد على ألف سنة بكثير ولم تتكرر ظاهرة زرياب في الفن، كما تحكي كتب التاريخ، وإلى وقت غير بعيد، وبالضبط في سبعينات القرن الماضي أفلت شمس نجوم الفن الراقي والموسيقى الأصيلة والغناء الجميل، كأم كلثوم وفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، ولكن هل ظهر من يخلف أي أحد من هؤلاء، رغم مرور ما يزيد على أربعين سنة عن رحيلهم. رحل عن دنيانا من تشرئب الأعناق إلى أحاديثه الشيقة في الفضائيات، ومن تشدنا تحاليله وتعليقاته في الجرائد والكتب، وعزاؤنا في فقدانه أنه ترك ثروة ضخمة من المصنفات والأحاديث المدونة في اليوتوب والانترنيت، فعسى الله أن يعوضنا بمن يخلفه. لقد خسرت الأمة العربية علما من أعلامها ورائدا من روادها وفقدت قامة سامقة من قاماتها. لقد مارس هيكل الصحافة والكتابة باقتدار وهمة وتميز واستقامة وعزة نفس وشموخ، إذ لم يحن الهامة لحاكم ولم يتزلف لأمير ولا سعى لكسب ود رئيس أو رضا ملك أوعطاء سلطان. عاش هيكل بكبرياء وأنفة، وإني لأتذكر ذات مرت رد فعله على صحفي يحاوره في قناة الجزيرة، لما قال له في آخر الحلقة "باختصار يا أستاذ"، فتوقف هيكل عن الكلام وعلامات الغضب بادية على ملامح وجهه، وأجاب الصحفي بأن هذه الكلمة لا يحبها، ففهم الصحفي الرسالة. لم يكن هيكل رحمه الله مجرد صحفي، بل كان مؤسسة إعلامية قائمة بذاتها، كان نابغة من نوابغ الصحافة والإعلام في العصر الحديث وكان يردد دائما في أحاديثه ناصحا الراغبين في ممارسة السياسة بالتضلع في التاريخ والجغرافيا، فرحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.