كنت تلميذا في بداية المرحلة الثانوية، يوم أن صدر كتاب: "خريف الغضب" للصحافي المصري الكبير محمد حسنين هيكل، وفي تلك السنوات كنت أقضي ساعات طويلة بين المكتبات، أقتنص الكتب، وربما كان يدور في خلدي أن لو أتيت من القوة ما أستطيع به أن أقرأ كل الكتب... لم أكن أعرف هذا الاسم بين من أعرف من الكتاب، لكن وجدتني منجذبا إلى هذا الكتاب الضخم، وعنوانه بالخط الأزرق البارز، وعلى واجهته الخلفية صورة رجل قد خط الشيب فوديه، إنها صورة المؤلف محمد حسنين هيكل، واشتريت الكتاب ومعه كتاب آخر للمؤلف ذاته، هو كتاب: "بين الصحافة والسياسة". شرعت في قراءة (خريف الغضب)، وإذا بي أمام قاموس لغوي جديد، وقدرة على تجميع المعلومات وتوظيفها؛ بل، وأمام مشهد هندسي بديع في توزيع الفقرات والصفحات، ووضع الصور في مواضع معينة، وفوق هذا وذاك هذه القدرة على هضم معلومات متنوعة، دون أن يشعر المتلقي معها بالنشاز أو التجافي، فالرجل اؤتي قدرة عجيبة على كسر الحواجز والجدر بين معلومات شتى، وقدرة على السرد الذي يشعرك أنك تطالع الحقيقة التي لا تحتمل الدفوع أو النقض، كما يقول أهل القانون... هكذا بدا لي هيكل في تلك المرحلة من حياتي، لولا بعض المقاطع التي أثارت انتباهي، وزعزعت قناعات قديمة كانت راسخة في وجداني، منها أنني كنت أعتقد أن المرحوم سيد قطب كان شيخا من علماء الدين، فإذا بي أقف مع هيكل على البعد السياسي في حياة الرجل، بل وذهب هيكل إلى تفسير بعض المنابع الفكرية، التي أثرت في حياة الأديب الناقد سيد قطب، ليصبح فيما بعد من ضحايا مقصلة عبد الناصر... ثم مضت سنوات، أصبحت لا ألتقي فيها بكتابات هيكل إلا لمامًا، إلى أن جاء اليوم الذي قرر فيه اعتزال الكتابة، وأطلع بعدها بفترة وجيزة من شاشة قناة الجزيرة في حلقات شهيرة، أخذت اسما مميزا هو: مع هيكل! واكتشفت هيكل من جديد، فإذا كان الانطباع الذي تركه في وجداني كاتبا كان قويا ومدويا، فالأستاذ هيكل المتحدث والحكاء، لم يكن يقصر على هيكل الكاتب وهو في وسط عقد الثمانينيات من عمره، كان متقد الذهن، حاضر البديهة، حلو العبارة، يمسك بخيط القضية التي يريد أن يفرضها على مستمعه، فلا يشعر المتلقي إلا والرجل يدخل حيث يريد وكيفما يريد، دون اسفاف أو ضوضاء. لقد تغاضيت عن هيكل في وجداني، وهو يتحامل عن الرئيس السادات، وهو يعمل سيفه ورمحه وسكينه في جسد رجل ميت، إلى درجة الطعن في لقبه، وفي كل ما يمكن أن يكون حسنة فيه، كان ذلك في كتاب خريف الغضب، وهو أول ما قرأت لهيكل، وسبب عذري له أن السادات سجنه، وربما ظلمه وهو من هو عند نفسه على الأقل. لكن الذي لم أفهمه، هو أن يتحوّل هيكل في آخر عمره إلى مناضل، مؤيد لانقلاب عسكري، ضد رئيس مدني وصل إلى الحكم بالانتخاب الشعبي، ولست هنا في موقف تأييد لطريقة محمد مرسي للحكم، ولا لرؤية جماعة الإخوان المسلمين، فأنا من المقتنعين بوجود هذه الأخطاء، والتي على رأسها مغامرة الإخوان بالترشح للرئاسة في مرحلة انتقالية حساسة، بل ومحاولتهم للانفراد بالحكم... هل كل هذا وغيره، يبرر لشيخ الصحافيين العرب، أن ينزل إلى دركات النضال في سبيل وصول ضابط على ظهر الدبابات إلى سدة الحكم؟ وأن يتغنى بشرعية يعرف هو قبل غيره أن الزمن قد عفا عن مثلها في كل بقاع العالم؟