كنت قد نشرت أيام الأحد والاثنين والثلاثاء 21، 22، و23 فيفري الماضي مقالا عنوانه "الضباط الفارون من الجيش الفرنسي".. الظروف والخلفيات والملابسات، وكان الطابع الغالب على الموضوع عاما وسرديا، حاولت من خلاله تسليط بعض الأضواء على موضوع، طالما أسال حبرا كثيرا وكان مثار جدل كبير في الفترات والحقب التي مرت بها بلادنا. ويوم الأحد 28 من نفس الشهر، كتب الدكتور محيي الدين عميمور موضوعا، كان عنوانه "اتقوا الله في رجالاتكم"، والعنوان ذاته يوحي وكأنني ارتكبت كبيرة أو أتيت معصية في حق أحد رجالاتنا بمجرد تطرقي عرضا إلى ذكر اسم الرئيس الراحل هواري بومدين رحمه الله. إن الموضوع الذي كتبته، ومن عنوانه يتضح أنه عام وسردي، يتناول الظروف التاريخية التي بدأ يفر فيها المجندون الجزائريون في الجيش الفرنسي والاتهامات الموجهة لهم من قبل خصومهم، وحاولت قدر المستطاع أن أميز ما بينهم في الحكم وأن لا أضعهم في تصوري وحسب السياق التاريخي لتطور الثورة الجزائرية في وعاء واحد كما يقال. وباستثناء الخطأ المتعلق بخلطي بين اسمي الشهيد حسين آيت إيدير رحمه الله وميلود إيدير رئيس ديوان كريم بلقاسم لتشابه الأسماء الذي صححه الدكتور، فإن هذا الأخير أجرى على الموضوع نقدا انتقائيا، إذ بتر منه ما يتصل بالمرحوم هواري بومدين وحاول أن يصورني أمام القراء كأنني خصم له، أحاول أن أصفي الحساب معه، كما اتهمني بأنني لم أذكره بكلمة خير واحدة. كما بدا من رد الدكتور أنه غير مرتاح ومتضايق من توقيع كتاباتي باسم مستعار وخرج عن واجب الاعتدال والوقار المطلوبين في الكاتب وراح يصفني بالمستتر تارة وبالخفي تارة أخرى، وكأنني ارتكبت ذنبا يعاقب عليه القانون والحال أن قانون الإعلام والأعراف والتقاليد المرعية في ميدان الصحافة تتيح للكاتب امكانية توقيع كتاباته باسم رمزي، شريطة أن يكون مسؤول النشر على علم بذلك وهذا لتحديد المسؤوليات، ثم أن هذا الاسم الرمزي، دأبت على الكتابة والتوقيع به منذ مدة فاقت 15 سنة ولم يعب علي أحد ذلك، لأن ما يتيحه القانون ويسوغه الشرع لا يجرمه الدكتور عميمور، الذي قضى ردحا من عمره يمضي بتوقيع م. دين ولم يؤاخذه أحد على ذلك. وللتذكير، فإنه وخلال القرن الرابع الهجري، وهو القرن الذي ازدهرت فيه الثقافة الإسلامية كتب "إخوان الصفا وخلان الوفاء "رسائلهم الشهيرة الرائعة الخالدة في الرياضيات وفي الطبيعة وفي الفلسفة وعلم الكلام ومختلف الفنون، لكن تلك الرسائل دونت بأسماء مستعارة، وظلت لحد الآن تشكل مراجع هامة في الدراسات الفلسفية والدينية. لقد حرص الدكتور عميمور في مستهل رده على أن ينفي عنه صفة محامي الرئيس بومدين، لكن نفي الشيء يؤكد نقيضه، كما يقال. وأود بادئ ذي بدء، أن أؤكد بأنني من شيعة بومدين ومن المعجبين بنهجه وسياسته رحمه الله وأسكنه فراديس جنانه? فالرجل في سياساته العامة انحاز لعامة الشعب وللضعفاء منهم بصورة خاصة، وأنجز مكتسبات هامة لصالح البلاد، ورحل عن دنيانا ولا يملك منها مقدار قطمير واحد، لكن إعجابي ببومدين وحبي له، يجب أن لا يخلع عنه صفة ملاك معصوم أو شخص منزه عن الأخطاء، فهو رجل من طينة بني آدم الذين يصح في حقهم الصواب والخطأ. إن بومدين اجتهد وأصاب، كما اجتهد وأخطأ أحيانا أخرى، وفي كلتا الحالتين فإن لم يكن له أجران، فواحد حتما مضمون. لقد أعطى الدكتور عميمور المحترم دروسا في منهجية كتابة التاريخ وطرائق توثيقه، وبتواضع جم أقول إنني لست مؤرخا ولا شاهدا على أحداثه، حتى أتقيد بمنهجية كتابة التاريخ وطرائق توثيقه، وإنما أنا مجرد كاتب على هامش التاريخ. أما بومدين رحمه الله فهو ملك للشعب الجزائري كله وجزء لا يتجزأ من تاريخه ولا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يحتكره أي أحد.
إن موضوع كتابتي لم يكن عن الرئيس بومدين حتى أتعرض له بالسوء، وإنما كان عن الفارين من الجيش الفرنسي وما قيل بشأنهم وعنهم وحولهم، وقد مضى على عمر دولتنا الوطنية 53 سنة والجدل حول هذا الموضوع لم يتوقف، وما جعلني أستطرد لذكر الرئيس بومدين هو ارتباط اسمه لدى كثير من الفاعلين في الساحة بهؤلاء الفارين واتهامهم له بالتمكين لهم وتوليتهم مسؤوليات حساسة في الجيش، حتى أصبحت الأمور في النهاية كلها في أيديهم والنهايات بالبدايات كما يقال. إن الدكتور عميمور قام بنقد انتقائي لما كتبت، فقد بتر موضوع الرئيس بومدين عن سياق المقال، ونفس الشيء فعله فيما يخص قضية شعباني رحمه الله، رغم أنني كنت موضوعيا وجد منصف وعادل، فقد أكدت أن قضية الضباط الفارين من الجيش الفرنسي لم تبدأ في وقت بومدين وإنما بدأها كريم بلقاسم لما عين إيدير ميلود، وقد صوّب لي الدكتور مشكورا الخطأ الذي وقعت فيه لتشابه الأسماء، كرئيس لديوانه وبدأت الاحتجاجات على كريم ولم يكن لبومدين آنئذ دور فاعل، لكن الرئيس بومدين بمرور الشهور والأعوام أحاط نفسه بهم وأخذ في التمكين لهم وتعجبت كيف حرف الدكتور عميمور عامدا قاصدا الشعار الذي رفعه المرحوم شعباني خلال المؤتمر الثالث والمتمثل في التطهير، وقد قلت إن التطهير المعني المقصود به تطهير الجيش والإدارة وأسلاك الأمن من أعوان فرنسا وعملائها، وأن عملية التطهير في وقت طرحها لم تكن مستحيلة التطبيق، غير أن الدكتور قصر عملية التطهير، لحاجة في نفس يعقوب، على الضباط الفارين، وهذا تغليط مقصود، والغريب في الأمر أن الدكتور ينكر نكرانا مطلقا ما يسمى بضباط الجيش الفرنسي المدمجين في الجيش الوطني الشعبي الجزائري بطلب من بومدين وزير الدفاع الوطني، فلو سأل الدكتور أبسط ضابط صف كان في جيشنا خلال الستينات والسبعينات لوقف على الحقيقة. بالتأكيد، إن معلومات اللواء خالد نزار بدواليب الجيش أغزر وأدق من معلومات الدكتور عميمور، فالرجل رافق مسيرة جيشنا من شهر أفريل 1958 إلى أواسط التسعينات وتقلد مسؤوليات حساسة، منها قيادة القوات البرية وقيادة الأركان ووزير الدفاع الوطني. لقد أكد اللواء خالد نزار مؤخرا، في سلسلة الحوارات التي أجراها مع الصحفي محمد مسلم وزميل له في قناة الشروق نيوز وجود المدمجين، الذين قدر عددهم بحوالي 50 في حين يقدر البعض الآخر الرقم ب200 ضابط، وقد ميز نزار قضية المدمجين ولم يعتبرهم من المنتمين لجيش التحرير الوطني وإن كان قد دافع عن الفارين بأنهم مجاهدون وطنيون حتى وإن كانوا ليسوا ثوريين، وقال بصريح العبارة إن قضية المدمجين لا تشبه قضية الفارين، وعلى أي حال فهؤلاء المدمجون وضعهم وزير الدفاع الوطني الفرنسي بناء على طلب أو التماس من وزير الدفاع الجزائري تحت تصرف الجيش الوطني الشعبي، وسواء كانت العبارة المستعملة طلب أو التماس أو رجاء، وطالما أن هؤلاء الضباط منتمون عضويا ونظاميا للجيش الفرنسي، فأيا كانت العبارة التي استعملها المرحوم في رسالته فهي لا تعدو أن تكون مجرد التماس، لأن وزير الدفاع الفرنسي في إمكانه أن يرفض الطلب ولا يقبله. إن الدكتور عميمور ينفي وجود هذه الرسالة ويصر على أنه لا يمكن أن تكون ولا ينشرها أحد من خصوم بومدين. إنه، وعلى العكس مما يزعم الدكتور الفاضل، فإنه إثر النقاش الحاد والساخن الذي أثاره نجل العقيد عميروش منذ عدة سنوات حول احتجاز جثماني العقيدين البطلين عميروش وحواس لمدة 20 سنة في كهوف قيادة الدرك الوطني، نشر الضابط المجاهد مهدي شريف في الصحافة الوطنية نص الرسالة التي بعثها بومدين إلى وزير الدفاع الفرنسي، والرسالة منشورة منذ ذلك الوقت، كما حكى هذا الضابط المجاهد فصول مأساة، إن لم أقل جريمة استخراج الجثتين من ثكنة بضواحي بوسعادة ونقلهما إلى وزارة الدفاع ودفنهما سريا بمقبرة العالية وفي مقابر مجهولة تحمل أرقاما سرية، ثم تم فتح القبرين فيما بعد واستخراج الجثتين ووضعهما في الطابق الأرضي تحت الأرشيف في قيادة الدرك الوطني لمدة 20 سنة، وقد اتهم مهدي الشريف كلا من عبد القادر شابو الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني وهواري بومدين وزير الدفاع الوطني، ولم يكذب رفيقه اللواء جوادي عبد الحميد صحة هذه الرواية كما لم يكذب أي أحد صحة الرسالة. لقد اتهمني الدكتور عميمور بأنني أرغب في تصفية حسابات مع الراحل بومدين، وهو في رحاب ربه وهذا تجن فاضح، كما اتهمني بالتقول على سي الطاهر زبيري وانتحال أقوال عنه، وأنا أنفي هذا الاتهام جملة وتفصيلا وإنني لا أكن للرئيس بومدين إلأ التجلة والتقدير واعتبره من عظماء هذه الأمة وكبرائها، ومهما تكن سلبياته فالموازين في النهاية بالحسنات والسيئات معا وبالخير والشر معا، وأكيد أن حسناته سيذهبن سيئاته ويفوز بالحسنى، جراء ما قدمه لوطنه وشعبه. وعجبي العجاب يا دكتور أن تجهل قضية الضباط المدمجين التي شاعت وذاعت وتكاد عجائز تلك الفترة تعلمها، ولولا حرصي على تجنب الإساءة لسمعة العائلات والأشخاص، لأن بعضهم توفاه الله والبعض الآخر خرج إلى التقاعد، لأسميت العديد منهم، لكن أخلاقي لا تسمح لي بذلك، سيما وأن حينا من الدهر مر على ذلك الفعل. ويزداد عجبي من الدكتور لما يقول إنه لم يسمع أحدا من ضباط الجيش، كالطاهر الزبيري ومحمد الصالح يحياوي وصالح سوفي ومحمد عطايلية وقاصدي مرباح. نعم، قد سمعوا وعلموا ولم يصدر أي فعل من أي واحد منهم، إلا العقيد شعباني فدفع ثمنه مقابل ذلك حياته، والطاهر الزبيري الذي ساءت الأحوال بينه وبين بومدين لهذه الأسباب وآلت الأمور بينهما إلى مجابهة مسلحة، استعلمت فيها الطائرات وأزهقت الأرواح وانتقل إلى جوار ربه الرائد السعيد عبيد قائد الناحية العسكرية الأولى. لقد وقعت عدة اغتيالات زمن الاستقلال، أشهرها حالة المرحومين كريم بلقاسم ومحمد خيضر، لكن لم يقم أي دليل قاطع على أن تلك الاغتيالات ذات طابع سياسي، ومهما يكن من أمر فإن الأمر بالنسبة للعقيد شعباني تم في إطار منظم، يعني محاكمة عرفية، اكتست صفة المشروعية، بموجب مرسوم تأسيسها واصدرت حكما بالإعدام، نفذ بسرعة فائقة دون أن تمنح أية ظروف تخفيف للمعني بالأمر، نظير ماضيه وتاريخه والخدمات التي قدمها للوطن، وما زاد الوضع تفاقما هو رفض الرئيس بن بلة إصدار عفو لصالحه، رغم محاولات الضباط أعضاء المحكمة العرفية التي نطقت بالحكم، ومهما يكن من أمر فإن الملابسات المحيطة بمحاكمة شعباني وتنفيذ فيه الحكم بسرعة فائقة وهوية الساهرين على التنفيذ تترجم وتحمل دلالات معينة، قد يأتي يوم نتعرض لها بالبحث والدراسة. إن الدكتور عميمور، ومن حيث لا يدري، وقع في تناقض، فهو من جهة يتهمني بالتحامل على بومدين ظلما باتهامي إياه بالتمكين لضباط فرنسا، وفي الوقت نفسه يؤاخذ عني أنني أبرئ وأبعد الضباط الفارين قبل مجيئ دوقول، عن دائرة الاتهام، فإن فعلت هذا فإنني أرفع الحرج على الرئيس بومدين إذا ما قربهم إليه، ويعني هذا سقوط اتهام التحامل وتصفية الحسابات. نعم، لقد ميزت بين الفارين وقلت إن من فر منهم داخل الوطن والتحق بجيش التحرير في جبال الجزائر لا يمكن اتهامه بالخيانة، لأنه فر إلى الموت وطلب الشهادة، كما ميزت بين الضباط الفارين قبل مجيئ دوقول وبعده وقبل بدء مفاوضات الاستقلال وبعدها بمراحلها المختلفة وخلصت في النهاية إلى القول بأن القضية شائكة ومعقدة ومتداخلة ولا أحد بمقدوره أن يقضي فيها باليقين، لأن الله وحده يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أما المدمجون فأمرهم بعيد بعد السماء عن الأرض، فهم ظلوا في وحداتهم الفرنسية خلال سنتي 1963، 1964 وبعضهم كان خلال الثورة يخدم ضمن وحدات الجيش الفرنسي بالجزائر وأجرم في حق شعبنا ورحل مع الفرنسيين إلى فرنسا أو ألمانيا، وبذريعة الاستعانة بكفاءتهم في بناء جيشنا أدمجوا ومنحت لهم رتب ومسؤوليات وبعضهم وصل في جانفي 1992 إلى مناصب جد حساسة في مفاصل الجيش. إن حجة الاستثمار في كفاءتهم حجة واهية، فأنا أذكر أن أول مدرسة للصاعقة كانت بسكيكدة وكان مكونوها من المصريين قبل أن يكلف خالد نزار بفتح مدرسة القوات الخاصة ببسكرة، ثم إن الخبراء العسكريين الروس كانوا موجودين في تلك السنوات بكثافة لتكوين جيشنا في مختلف التخصصات القتالية. إن إدماج هؤلاء في جيشنا لم يغننا عن الاستعانة بخبراء أجانب وإن النتيجة الوحيدة لذلك الإدماج، هي تغطية جرائمهم في حق شعبنا وتحطيم معنويات مجاهدينا وإحباط نفسياتهم. إن تاريخ ثورتها وتاريخ ومسيرة بناء دولتنا ملك لجميع الجزائريين والجزائريات، الذين يتعين عليهم جميعا دراسته ومعرفته، وخلافا لما يرى الدكتور، فإنه لا ينبغي أن نضفي هالة من القداسة على تاريخنا، تحجب عن الأجيال رؤية حقائقه، كما هي بحجة عدم تدنيسه، فالتاريخ لا يدنس ولا يحنط بالمفهوم الجنائزي، فماذا إن أخطأ بومدين عن حسن نية بعد أن اجتهد بتقريبه الفارين منه. بالتأكيد لن تفوق قدسية ثورتنا رسالة الإسلام الخالدة، لأنها أعظم رسالة حملت معجزات اليقين المطلق ولن يكون قادة ثورتنا أقدس من الصحابة المبشرين بالجنة رضوان الله عليهم، ومع ذلك فإن كبار المؤرخين الإسلاميين، كابن هشام والمسعودي والطبري وابن سعد، تناولوا تفاصيل التفاصيل في مصنفاتهم ولم ينج من نقدهم أبو بكر الصديق رضوان الله عليه في موقفه من قضية قتل خالد بن الوليد لمالك بن نويرة في حروب الردة، كما لم ينج عثمان بن عفان من نقد جارح وحرج في قضية قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب للهرمزان بدون بينة، ورفض عثمان لطلب علي بن أبي طالب إقامة الحد عليه، ما اعتبر آنئذ أول تعطيل لشرع الله في الإسلام. إن ما دونه المؤرخون المسلمون الأوائل من تفاصيل مثيرة لم تنل من عظمة الإسلام ولا من خلود رسالته أو سموها، بل زادته نصاعة وتألقا ولألأة ورفعة. إن حب الفرنسيين لثورتهم وتعلقهم بها لم يثنهم عن تدوين تاريخها وتفاصيل وقائعها وأحداثها، وتسجيل تصفيات الحسابات التي تمت بين قادتها من روبسبيير إلى دانتون وغيرهما وكيف نصبت المشانق وضربت الأعناق وحزت الرؤوس في الساحات العامة، ورغم كل ما حصل فإن ذلك لم ينقص من عظمة الثورة الفرنسية ولا من وهجها وتألقها في وجدان الفرنسيين. واسمح لي، يا دكتور عميمور، أن أصارحك بأنني لست من أنصار مدرسة تأجيل تدوين تاريخ ثورتنا وإضفاء الطابع النخبوي عليه وحصر تناوله في الخاصة، فعالم العولمة والرقمنة سيتجاوزنا وإن لن نفعل فسيكتبه أعداؤنا ويقرؤه أبناؤنا ضمن صفحات دونها غيرنا إن لم يكن خصومنا. لا ألومنك إن أخذتك الحمية عن بومدين وتسرعت في الرد، رغم اعترافك أنك قرأت الموضوع على عجل، ولو تأنيت لتجنبت اتهامي بالباطل. فبومدين رفيقك وخليلك وصديقك، لكن لما قرأت ردك استغربت عدم سمعي منك حسا ولا همسا ولا ركزا إثر الهجمات الشرسة التي تعرض لها المرحوم رفقة الشهيد بوصوف عبد الحفيظ من قبل الدكتور سعيد سعدي ونجل العقيد عميروش، اللذين اتهماهما بأنهما هما من قاما بتسريب الرموز السرية لراديو الأمواج لكشف مسالك ومسار العقيدين عميروش والحواس عمدا، بغرض التخلص منهما عن طريق الجيش الفرنسي وتم لهما ذلك، حسب زعمهما، وحسبما أتذكر فإنني لم أقرأ لك أية غضبة مضرية أو رد فعل عاصف على ما حصل، اللهم إلا إذا تجاوزتني الأحداث. أما فيما يخصني، فإنني اكتفيت فقط بترديد مآخذ البعض على بومدين من تمكينه الفارين من الجيش الفرنسي، أما فيما يتعلق بقضية شعباني فلقد قلت بأن المسؤولية القانونية والسياسية تقع على عاتق الرئيس بن بلة رحمه الله، باعتباره القاضي الأول للبلاد ويملك صلاحيات إصدار العفو، أما المرحوم بومدين فيؤاخذ عنه عدم بذله العناية المطلوبة والجهد اللازم لتفادي إعدام شعباني، باعتباره مرؤوسا له وخاضعا لمسؤولية وزير الدفاع، وهل هناك في مؤسسة الجيش من هو أقوى من وزير الدفاع الوطني رئيس الأركان لممارسة الضغط على الرئيس بن بلة، وقد ثبت أن سي الطاهر الزبيري حاول ففشل، لكن لم يتحدث أحد عن أية محاولة لوزير الدفاع الوطني. إذا كان الضباط أعضاء المحكمة العرفية، وهم الشاذلي بن جديد وعبد الرحمان بن سالم والسعيد اعبيد، نفذوا تعليمات الرئيس بن بلة الواردة إليهم عبر وزير الدفاع الوطني، فهم إنما فعلوا ذلك اعتقادا منهم بأن الرئيس لن ينفذ فيه حكم الإعدام، ولما أيقنوا بأن التنفيذ سيتم، كلفوا أحدهم وهو الرائد السعيد أعبيد للاتصال بالرئيس وطلب العفو عن شعباني باسمهم جميعا، وقد اتصل السعيد أعبيد مرتين بالرئيس، فلم يصغ له وفي المرة الثانية، يقول الرئيس الشاذلي، أنه شتمه وأمر بتنفيذ الحكم في تلك الليلة وأقفل الهاتف في وجهه. لقد تطرق الرئيس الشاذلي بن جديد إلى كل هذه التفاصيل في محاضرته بجامعة الطارف، وقد حضر المحاكمة كعضو كما حضر عملية التنفيذ في غابة كانستال بوهران، التي كانت محاصرة بعناصر الدرك الوطني بقيادة العقيد بن الشريف، الذي كان يشرف على العملية بنفسه. لم أتهم، يا دكتور عميمور، الرئيس بومدين رحمه الله ولم أتحامل عليه ولم أسِمه لا بالجوسسة ولا بالخيانة، كما فعل غيري ممن ذكرت أعلاه، ومع ذلك سجلت في ردك عبارات حمالة أوجه، وكم تمنيت أن لا ترد في كتابتك، لأنني أحسبك من خيرة مثقفينا ومن كبار كتابنا. أما الرئيس بومدين رحمه الله فسيظل حيا في ذاكرة شعبنا ما بقيت جبال الجزائر راسية وسيبقى رمزا من رموز أمتنا، ولو كنت متحاملا عليه لنحوت في دراستي منحى آخر، وإنما أشرت إليه عرضا لارتباط اسمه بالقضية موضوع حديثي. أما قضية العقيد شعباني فستبقى تشكل جرحا غائرا ومؤلما في جسد وذاكرة دولتنا، لن تمحوه الأيام ولن تطويه السنون والأزمان.