لقد كانت القاعدة التي يتبعها جيش التحرير إزاء هؤلاء الفارين إلى جبالنا هي أن يجرد الفار من سلاحه أولا، ثم يجرى تحقيق حول هويته ووضعية عائلته ومحيطه ويؤخذ رأي خلايا الإسناد والاستخبار في القرية والبلدة التي فر من مركزها، ويترك بدون سلاح تحت النظر والتجربة لمدة قد تقصر أو تطول حسب الأحوال وعندما يتم التأكد من صدق نيته يرد له سلاحه أو يعطى له سلاح آخر ليشارك رفاقه في الكمائن والاشتباكات، وأما من تحوم حوله الشكوك بأنه أرسل بغرض اختراق الصفوف فيحال على محكمة عسكرية لتبث في شأنه. إن من بين الضباط الذين فروا من وحدات الجيش الفرنسي داخل الوطن في السنوات الأولى من الثورة وقبل مجيء الجنرال دوفول اللواء عباس غزيل الذي كان ملازما في الجيش الفرنسي، ولما حضر إلى باتنة في إجازة اتصل به مناضلو الثوة فالتحق بجيش القائد أحمد عزوي بناحية أريس وذلك في سنة 1956، كذلك الأمر بالنسبة للعقيد شابو الذي فر قبل مجيء دوفول، والوضع نفسه فيما يخص العقيد أحمد بن شريف الذي فر رفقة زملائه من معسكر للجيش الفرنسي بضواحي سور الغزلان بالولاية الرابعة· إن أمثال هؤلاء لا يمكن أن تنتابنا الريبة في شأنهم أو تساورنا الشكوك في نواياهم، لأنه بكل بساطة ليس في الفرار أو الالتحاق بجيش التحرير في الداخل ما يغري أو يشجع، فلا المستقبل واضح ولا الأفق بيّن، ولا المفاوضات بدأت ولا النصر محتمل أو مرجح ولا المسؤوليات في الانتظار، بل على العكس من ذلكم هناك الخوف والجوع والعري والمطاردات والكمائن والاشتباكات والجرح والأسر والتعذيب· إننا لو نساير هذه الأطروحات بسهولة، فإنه حتما سنقع في المحظور ونسيء من حيث لا ندري لذاكرة رجال دفعوا أرواحهم ثمنا لحريتنا وفداء لاستقلالنا· أما الفئة الثانية فهم الضباط الذين تمت ترقيتهم، في إطار دفعات لاكوست وحولوا إلى الخدمة ضمن وحدات الجيش الفرنسي بأوروبا، خاصة في ألمانيا، فإن من التحق منهم بجيش التحرير، إنما التحق بتونس أو المغرب، حيث بدأت الفيالق تتكون، وقيادات الأركان تتشكل والنجوم تزين الأكتاف، ونمط الفيالق يتم على نسق وشاكلة الفيالق الفرنسية· لقد التحق ابتداء من سنة 1958 عدد معتبر من ضباط الجيش الفرنسي منهم خالد نزار، فنايزية عبد المالك، عبد المؤمن، بوزادة، بوتلة، سليم سعدي، عبد النور بقة، سليمان هوفمان، عبد المجيد علاهم، زرفيني محمد، محمد علاهم، عبد الحميد لطرش، مصطفى شلوفي، سايس، العربي بلخير، خليل حبيب، وفي سنة 1961 التحق اللواء محمد تواتي والفريق محمد العماري· إن الالتحاق بهذا العدد المعتبر، أثار شكوك بعض قادة الثورة بتونس فطرحوا الإشكال وطالبوا علاجه بجدية حماية للثورة من الاختراق من الداخل، وتم الاتفاق على الاستعانة بهؤلاء في المهام التقنية، لكن لا تسند لهم أية مسؤولية سواء كانت سياسية أو عسكرية· والواقع أن الأمر كان قد بدأ قبل ذلك، لما قام المرحوم كريم بلقاسم وزير القوات المسلحة بتعيين الرائد إيدير ميلود كرئيس لديوانه والحال أن هذا الضابط كان في غضون سنة 1955 يقود حملات تمشيط الجيش الفرنسي بالأوراس· لقد احتج الكثير من المجاهدين على المرحوم كريم بلقاسم الذي سمح لنفسه أن يعين لإدارة ديوانه ضابط كان يحيي العلم الفرنسي، ويغني نشيد لامارسياز، وحلف يمين الولاء والإخلاص لفرنسا، لكن للأقدار قدرها ولقضاء الله مشيئته، لقد أرسل هذا الضابط ضمن فوج من المجاهدين لفتح جبهة الحدود الليبية وخاض مواجهة مع الجيش الفرنسي وسقط شهيدا في ميدان الشرف· إن انقساما حقيقيا مطبوعا ببعض الملامح الايديولوجية، فضباط فرنسا يطلق عليهم اسم les D.A.F في حين يطلقون هم على خصومهم ضباط الشرق الأوسط· إن أصل ضباط الشرق الأوسط في أغلبهم وهي تسمية من إبداع ضباط فرنسا هم مجاهدون التحقوا بوحدات جيش التحرير الوطني وكثير منهم كانوا مناضلين في حزب الشعب أو في جبهة التحرير الوطني ولما تجندوا أرسل من كان لهم مستوى ثقافي معين إلى مختلف البلدان العربية للتكون في كلياتهم العسكرية، فمنهم من أرسل إلى العراق أو سوريا أو الأردن أو مصر، ومنهم من أرسل في السنوات الأخيرة للثورة إلى الصين الشعبية للتكون كطيارين مقاتلين، والبعض الآخر من هؤلاء كانوا طلبة في القاهرة وجندهم الرئيس بن بلة ومحمد خيضر بعد تكوين مستعجل في المدارس العسكرية المصرية، وقد عزّ على ضباط فرنسا أن يسموا زملاءهم على الأقل بضباط البلدان العربية لأنهم تكونوا بها ولم يتكونوا لا في إيران ولا باكستان ولا تركيا· والملاحظ أن ضباط فرنسا عندما يتعرضون لهذا الموضوع بالحديث يقصرونه فقط على ضباط الشرق الأوسط، ويتجاهلون تماما ضباط جيش التحرير بالداخل الذين لم يتكونوا لا في البلدان العربية ولا في سان ميكسون أو ستراسبورغ أو القليعة أو مليانة، وعلى عاتق هؤلاء وقع العبء الأكبر في ضمان استمرارية الثورة خاصة بعد نجاح فرنسا في بناء خطي شارل وموريس ومنعت اختراق الحدود الغربية والشرقية وتوقف الإمداد الخارجي، فأين نصنف قادة الولايات وقادة المناطق وقادة النواحي ومسؤولي القسمات الذين لم يبرحوا أرض الوطن إلى يوم الاستقلال· إن الضباط الفارين من الجيش الفرنسي، أسندت لهم مهمات تقنية في المدارس المفتوحة في الحدود الشرقية والغربية في البداية، ولم يقاتل منهم في الولايات الداخلية أي أحد، حسب علمي إلا أحمد بن الشريف، وشيئا فشيئا بدأ بومدين يكلفهم بمهام غير تقنية، فتصاعدت الاحتجاجات· إن الرئيس الشاذلي بن جديد رحمه الله ألقى محاضرة في جامعة الطارف في سنة 2008 تطرق خلالها بالتفصيل إلى هذه المسألة وأكد أن اللواء خالد نزار أرسل إلى منطقة كمستشار تقني له، غير أن المجاهدين الذين كانوا معه رفضوا التعامل معه، ولم يستطع إقناعهم بقبوله إلا بعد مرور ستة أشهر· لم تطغ هذه القضية كثيرا أيام حرب التحرير، بالنظر لظروف الثورة وأعبائها لكن بعد الاستقلال برزت بقوة وطرحت إشكالا جديا وصل إلى صراع حقيقي قطباه العقيد محمد شعباني من جهة والعقيد هواري بومدين من جهة ثانية· لقد تجلى هذا الصراع خلال جلسات المؤتمر الثالث لحزب جبهة التحرير الوطني المنعقد في أفريل 1964، فقد طرح شعباني قضية التطهير ويعني هذا تطهير الجيش والإدارة من عملاء فرنسا وأذنابها· لقد كان أفراد الجيش الوطني الشعبي، يشاركون في مؤتمرات الحزب ولما كان العقيد شعباني يلقي كلمته كانت قبعات ضباط الجيش ترمى إلى سقف القاعة تأثرا وتفاعلا مع كلام العقيد شعباني رحمه الله· إن الرئيس بن بلة عليه رحمة الله كان مساندا لرأي العقيد شعباني الرامي إلى حتمية التطهير وضرورته، لكن العقيد هواري بومدين وزير الدفاع تناول الكلمة على الساعة الثالثة فجرا وقال كلمته الشهيرة "من هو الطاهر بن الطاهر الذي يطهر" وأوضح في كلامه أننا في حاجة إلى بناء جيش عصري، ولابد لنا من مكونين ومؤطرين فالأفضل لنا الاستعانة بجزائريين ولو كانوا في الجهة الأخرى أفضل من الاستعانة بالأجانب· لم يحسم الجدل خلال أشغال المؤتمر الثالث حول هذه القضية، ذلك أن وزير الدفاع هواري بومدين كان قد وجه رسالة إلى وزير الدفاع الفرنسي قبل ذلك بشهور يلتمس منه وضع تحت تصرف الجيش الوطني الشعبي الضباط الجزائريين المتواجدين بالجيش الفرنسي بغرض إدماجهم ضمن الجيش الجزائري مع الاحتفاظ بكل حقوقهم من أقدمية ورتب ورواتب وكافة الامتيازات، وبالفعل تم تحويل عدد من الضباط وضباط الصف من الجزائريين ما بين سنتي 1963، 1964 وتم إدماجهم في جيشنا، إضافة إلى جنود وضباط الجيش الفرنسي المشكلين للقوات المحلية (Forces locales الذين أدمج البعض منهم ضمن الجيش الوطني الشعبي· لقد تفاقم الخلاف ما بين هواري بومدين ومحمد شعباني إثر إرسال البعثة الأولى من ضباط الجيش الفرنسي المدمجين بعد الاستقلال إلى قيادة الولاية السادسة فرفض العقيد شعباني استقبالهم وطردهم· يتبع..