لن أسترسل في الحديث عن حرب أكتوبر إلا بالقدر الذي يندرج في إطار ما أريد الوصول له من خلال هذه الأحاديث، التي أحاول من خلالها أن أعرف حقيقة ما حدث في الأسبوع الثالث من أكتوبر 1973، وأتعرف على أسباب النكسات التي أصابتنا منذ ذلك الحين، والتي وصلت بنا إلى مرحلة أصبح عدوّ الأمس فيها حليف اليوم على حساب رفيق الأمس. وللتذكير، فقد كانت المشاورات مستمرة حول إصدار قرار لمجلس الأمن يقضي بوقف إطلاق النار على الجبهة المصرية الإسرائيلية، وفي هذا الإطار التقى الأستاذ هيكل بالرئيس السادات في مقر قيادته بقصر الطاهرة، وسمع منه بأنه وافق على مشروع القرار الذي تم الاتفاق عليه في موسكو بين القيادة السوفيتية وكيسنجر، وأورد هنا، ضمانا لمصداقية الاستعراض الذي أستند فيه عامداً لمصادر مصرية، جانبا من حوار هيكل مع الرئيس المصري طبقا للنص الذي أورده في كتابه : أكتوبر 73 السلاح والسياسة(ص 23/24/25). * - هيكل (الذي لم يكن قرأ نص المشروع بعد) : هل وافقت سوريا؟ * - السادات (بسرعة) : لا أعرف ..أظن أنهم سوف يوافقون. * - هيكل : هل يعرف السوريون بالموعد المقرر لوقف إطلاق النار ؟ * - السادات (بدت الحدّة تغلب على نبراته) : سوف يقول لهم الروس. * - هيكل : السوريون عندما فتحوا النار يوم 6 أكتوبر نسقوا معنا وليس مع السوفييت. * - السادات : هذه مسألة شكلية. ويلاحظ هيكل الإشارة إلى بدء محادثات مباشرة بين الأطراف فيسأل الرئيس إذا كان وافق على هذا الكلام. * - السادات (بحزم) : أيوه. * - حافظ إسماعيل ( يتدخل بشبه اعتراض) : ليس هناك ما يدعو إلى العجلة. * - السادات (صائحا وهو ينتفض للوقوف) : جرى لك إيه يا حافظ ؟ (يكررها) أنت راجل عسكري، احتياطك الإستراتيجي خلص. * - هيكل : هل تم الاتفاق فعلا على وقف إطلاق النار عند منتصف الليل؟ * - السادات : أيوه ، أريد أن أعطي لأولادي في الجبهة فرصة النوم هذه الليلة مستريحين. * - هيكل : أنت أول من يعلم بتجاربنا مع إسرائيل في وقف إطلاق النار وكسره (..) نطلب من السكرتير العام للأمم المتحدة إرسال قوة مراقبين (..) * - السادات : ليس هناك وقت لمثل هذا الطلب. * - هيكل : هناك قوة في قبرص يمكن إرسال مجموعة من ضباطها (..) حتى لا يقوم الإسرائيليون بعمليات (..) * - السادات : ليس هذا وقته، لقد وافقتُ على وقف إطلاق النار وانتهى الأمر (..) هذا وقف إطلاق نار وراءه القوتان الأعظم. وواضح هنا حجم التعنت الذي تصرف به السادات، والعنجهية التي يتعامل بها مع مساعديه، وهكذا طلع صبح 22 أكتوبر والسادات وحده في قصر الطاهرة، وقد علق آماله كلها على كيسنجر وما يقوم به في موسكو، وترسخ لديه، كما يقول هيكل، يقين كامل بأن ساحر فيتنام سوف يمارس سحره في الشرق الأوسط، وعندما يلتقي الصحفي إثر ذلك في القصر بالعقيد عبد الرءوف رضا، مدير مكتب الشؤون العسكرية للرئيس يسمع منه بأن: مصر في خطر (..) الرئيس لا يستمع إلى مستشاريه وأحيانا لا يقابلهم (..) الأجواء في القيادة العامة (للقوات المسلحة) ملبّدة ومتقلبة، وهي غيّرت الصورة أمام الرئيس خلال 24 ساعة من الورديّ إلى الأسود مرة واحدة (..) هناك حالة من الغضب بين شباب الضباط في غرفة العمليات (..) القيادة العامة تبدو منقسمة (..) الموقف على الجبهة قد تحسن في الساعات الأخيرة (لا بد من) تدعيم الموقف على الجبهة، حتى إذا جاء وقف إطلاق النار يمكن استثماره على أحسن وجه. ونحس هنا فورا بغياب تام للقائد الأعلى وبطل الحرب عن ساحة التحركات القيادية، رغم أنه ، كما يؤكد هيكل، جمع في يده كل خيوط الموقف (..و) كان الرئيس هو الذي اختار أن يواجه الموقف وحده (..) فلقد أراد أن يكون صاحب النصر عندما ننتصر (..) بينما كنت أظن أن هذه الساعات الحرجة التي نمرّ بها هي بالضبط الظروف التي بُنيَ من أجلها تنظيم الأمن القومي (وهكذا) كان السادات غير قادر على تصور واقع انتصاره الإستراتيجي. وسؤالان، أكررهما من جديد ونحن في مطلع العشرية الثانية من الألفية الثالثة. 1 - من كان وراء تشجيع الرئيس على الاندفاع شرقا؟ 2 – من كان وراء تشدد الرئيس في التمسك بقرار إطلاق النار بتعنت وصلف وبشكل مطلق يبدو وكأنه إيمان بغيبيات غير منظورة. وفي موسكو يتشكك غروميكو في إمكانية موافقة الصين على قرار مجلس الأمن، ويتكفل السادات بالأمر بطلب من كيسنجر، فيرسل برقية إلى ماو تسي تونغ ترجوه ألا تستعمل الصين حق الفيتو ضد المشروع (..) وكان ردّ مندوب الصين ((هوانغ زان)) في نيويورك على طلب وزير خارجية مصر ((الزيات)) بالامتناع عن التصويت، بناء على التعليمات التي وصلته بالطبع من بيكين، أنه : ((لا يليق بكرامة الصين أن تكون حاضرة في اجتماع يناقش قضية على هذه الدرجة من الأهمية ثم تمتنع عن التصويت (..) ومادام أصدقاؤنا العرب يعتبرون مرور المشروع مسألة حيوية بالنسبة لهم ولمّا كانوا هم الأكثر دراية بمصلحتهم فإن الوفد الصيني يستطيع أن يتغيب عن جلسة مجلس الأمن أصلا حتى يتجنب التصويت على مشروع قرار لا يعتقد بصوابه، وحتى لا يعترض على مشروع يعتقد العرب أنه في مصلحتهم)). وللأمانة التاريخية فإن كيسنجر لاحظ عند وصوله إلى إسرائيل في الواحدة من ظهر 22 أكتوبر قادما من موسكو أن : ((صلابة إسرائيل قد امتحنت، وهي شهادة لحجم الإنجاز الرائع الذي حققته الجيوش العربية في ميادين القتال، وبدا أن الجميع، بمن فيهم الجنود الذين رآهم في مطار بن غوريون، كانوا متلهفين إلى قرار بوقف إطلاق النار (..و) شعر تحت السطح بانكسار يصعب إخفاؤه، فهالة الجيش الذي لا يقهر جرى تدميرها في الأيام الأولى للحرب)). لكن غولدا مائير، وهي تدرك سطوتها على وزير الخارجية الأمريكي، كانت تريد أن تحجّم الانتصار العربي وتقزمه إلى أقل حجم ممكن، وتقول له بصراحة بأن جيش الدفاع في حاجة إلى ثلاثة أيام إضافية أخرى لكي يحقق أهدافه على الجبهة المصرية، ويبدي أولا معارضته قائلا بأن السوفييت لن يقبلوا بتأجيل التصويت على القرار (..ثم) يجد المخرج قائلا لمائير بأن :((جيشها يستطيع مواصلة عملياته بعد وقف إطلاق النار طوال المدة التي تستغرقها طائرتي من هنا (إسرائيل) إلى واشنطون، علما بأنني سوف أتوقف ساعات في لندن)). ويتلقى كيسنجر برقية من حافظ إسماعيل تتمنى أن يمرّ بالقاهرة بعد اختتام زيارته لإسرائيل، فيعتذر، حيث قدّر أنه سيتعرض في العاصمة المصرية لضغوط تطلب منه تعهدا بالمحافظة على وقف إطلاق النار. ويُعلَنُ عن وقف إطلاق النار في منتصف الليل، لكن الطوابير الإسرائيلية تواصل تحركاتها فجر 23 أكتوبر، وتتجه نحو السيطرة على السويس ومحاولة حصار الجيش المصري الثالث ليكون أداة للضغط على مصر في أي مفاوضات مقبلة (وهو ما حدث بالفعل) ويعترف كيسنجر في مذكراته بأنه : ((ربما شجع الإسرائيليين على خرق وقف إطلاق النار عندما قال لمائير : إننا سوف نتفهم موقفكم إذا قمتم بزحلقة وقف إطلاق النار لعدّة ساعات، خلال المدة التي أقضيها في الجو)). وعادت مصر لتمارس من جديد عملية الشكوى لمجلس الأمن والبكاء عند أسواره، وكأنها لم تحقق نصرا أسطوريا بفضل تضحيات الرجال ودماء الشهداء. ويتحرك السوفييت مرة أخرى، ويزمجر بريجنيف، ويرسل كيسنجر لرئيسة الوزراء الإسرائيلية قائلا بوضوح : ((إن السادات يقترب من أمريكا وينبغي عليكم أن تشجعوه على ذلك بدلا من عرقلة خطواته)) لكن غضب موسكو يتزايد فتصدر بيانا يحمل توقيع بريجنيف شخصيا، جاء فيه : ((إن استمرار العدوان الإسرائيلي سوف يسفر عن عواقب وخيمة (.و) الاتحاد السوفيتي سوف يقرر لنفسه منفردا اتخاذ الخطوات الضرورية والعاجلة لتأكيد وقف إطلاق النار)) وكان معنى هذا، كما يقول هيكل، أن القيادة السوفيتية وضعت هيبتها في الميدان (..) ويقول كيسنجر للإسرائيليين أن : ((الولاياتالمتحدة فعلت كل شيء من أجلهم، وعلى إسرائيل الآن أن تدرك أن هناك حدودا في العلاقات الدولية يجب مراعاتها))، لكنه يحاول تمييع الموقف عبر الاتصال بالسفير السوفيتي في الأممالمتحدة، ويعترف في مذكراته بأن هدفه كان إرباكه، حيث قال له أن : ((نيكسون على اتصال بالسادات عن طريق قناة سرية)). ولم يكن بريجنيف على استعداد للوقوع في شراك كيسنجر، فيبعث برسالة غاضبة إلى الرئيس الأمريكي لا يبدؤها بعبارات ..صديقنا، أو عزيزي، أو الرئيس المحترم، بل يتجه مباشرة وبجفاف واضح إلى((السيد الرئيس)) قائلا : ((إننا واثقون من أن الولاياتالمتحدة لديها كل الإمكانيات للضغط على إسرائيل حتى تضع نهاية لهذا المسلك الاستفزازي (..) وأنا أريد أن أتلقى منك على الفور معلومات بشأن الخطوات التي سوف تتخذونها لإرغام إسرائيل على الالتزام الفوري بقرارات مجلس الأمن يومي 22/23 أكتوبر)). ويطلب كيسنجر من الرئيس الأمريكي أن يكتب بنفسه رسالة إلى غولدا مائير يطلب منها وقف العمليات العسكرية فورا. وتبدو هنا واضحة صلابة الصينيين ورجولة السوفييت وخداع كيسنجر وتهاون السادات وحجم التفريط العربي في حقوق الشهداء والمقاومين.