كتب السيد حمدان بن عثمان خوجه في رسالة أخرى إلى المارشال سولت:" ألا إني لأذكركم بأن "القاسم المشترك بين نظامكم وشريعتنا هو تقديس الحرية التي تفقد كل قيمة إذا لم يكن هناك قضاء مستقل يحميها ويوفر لها أسباب الازدهار". ومن، ثمة، يضيف في رسالته، فإن المحكمة العليا، عندنا، تفصل في القضايا الإجرامية والزجرية والتأديبية مدنية كانت أو عسكرية. وكانت، كذلك، تنظر في الخصومات التي قد تحدث بين رئيس الحكومة وأي فرد من أفراد الرعية. وكانت سلطتها أي (المحكمة العليا) لا تخضع للسلطان و أحكامها نافذة. أما السلطة الملكية ( أي الحكومة بجميع مكوناتها ) فتسهر على تنفيذ الأحكام المسلمة إليها من السلطة القضائية، و تعنى بتطبيقها حسبما تقتضيه الأسس الأصلية لقوانين شريعتنا ونظم محاكمنا. ومن المؤسف، جدا، أن هذه القوانين والنظم غير معروفة في فرنسا". ومن بين المعاصرين الفرنسيين ، يمكن الاكتفاء بشهادة الجنرال "مونتانياك" الذي كتب في رسائله من مدينة معسكر بتاريخ02/02/1842 : " بمجرد ما نعرف موقع القبيلة، ننطلق في كل الاتجاهات حتى نصل إلى الخيام، فيستيقظ سكانها على وقع الخيل والأجناد، وفي فوضى كبيرة يحدث الخليط بين القطعان والنساء والأطفال، كل يجري هاربا إلى جهة معينة. وينطلق الرصاص من جميع البنادق صوب أولائك البؤساء العزل...كل الأبقار والأغنام والمعز والخيل وما إلى ذلك من الحيوانات تجمع في مكان، ثم يقتحم الأجناد كل الخيام ينهبون محتوياتها ولا يخرجون إلا محملين بالزارابي والصوف والأسلحة وغير ذلك من الأشياء التي توجد بكثرة في تلك الدواوير الثرية في غالب الأحيان...بعد ذلك تضرم النيران في كل ما لا يمكن حمله ويساق الأسرى من الحيوانات والناس في قافلة واحدة ينطلق منها الصراخ والنباح والصهيل والثغاء والنهيق... هكذا كنا نلاحق العرب حيثما وجدناهم ونستولي على كل ما بأيمانهم من النساء والأطفال والقطعان والأشياء الثمينة...وفيما يتعلق بالنساء، فإننا نأخذ بعضهن سبايا ونقايض الباقي بالخيل أو نبيعهن بالمزاد العلني مثل الحيوانات، وبإيجاز، لقد جعلنا من التخريب والإبادة لازمة". ولم يكن التخريب والإبادة موجهين ،فقط، للأرض وما عليها ،بل إن الإدارة الكولونيالية قد ركزت ، منذ بداية الاحتلال، على إبادة الدين الإسلامي واللغة العربية باعتبارهما أساس التربية والتكوين ومصدر المناعة ضد الذوبان في الآخر أي ضد الاندماج والمسخ بجميع أنواعه. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى عديد المحاولات التي استهدفت القضاء على الجزائريين والتي قام بها غلاة المحتلين أمثال "بيجو " الذي كان يفتخر بكونه يحب الحديث إلى العرب لكن ليقول لهم:" ابعدوا لنحل محلكم"، و"لافيجري" الذي قدم إلى الجزائر سنة 1867 وفي حقيبته برنامجا مفصلا لاقتطاع ما يسمى، اليوم، بمنطقة القبائل الكبرى ، قصد تنصيرها و تحويلها إلى " لبنان إفريقي " . ولأجل ذلك قام بإنشاء مجموعة من المراكز التي أسند مسئولية تنشيطها إلى الآباء البيض . وبالموازاة مع ذلك ، استغل وضع المجاعة و المسغبة التي عرفتها المنطقة ، فجمع حوالي ألفي طفل وطفلة تتراوح أعمارهم ما بين 8 و 14 سنة وعمدهم ثم وزعهم على المراكز المذكورة ، مما أثار سخط الأهالي الذين لجئوا إلى كل الوسائل ، لكنهم لم يستطيعوا سوى استرجاع أقل من خمس الأطفال المحتجزين. لقد كان " لا فيجري " لا يترك بابا إلا و طرقها لجلب الأنصار وتجنيد القادة السياسيين لخدمة أغراضه الرامية إلى " وضع نظام يقضي على الحياة بقتل روح المبادرة وخنق كل أنواع الحرية " كما صرح بذلك لمجلة La gazette du midi الصادرة بتاريخ 18 /05 /1868 التي أوردت له كذلك قوله إنه لن يهدأ له بال حتى " يعيد سكان المنطقة إلى ديانتهم الأولى " وكأنما كانت المسيحية هي أول الديانات التي اعتنقوها. وإلى جانب الراهب لا فيجري ، تجدر الإشارة إلى السادة : كليمانت ديفارنوا " DUVERNOIT clément " و" RENOUX " وأوجين إيتيان " ETIENNE EUGENE " الذين تمكنوا، بواسطة النشاط السياسي و الكتابة على أعمدة الصحافة ، من إقناع أصحاب الحل والربط في فرنسا بضرورة التركيز على منع تعليم اللغة العربية وتحفيظ القرآن الكريم باعتبارهما " أخطر الوسائل التي يلجأ إليها شيوخ الزوايا في حربهم ضدنا " . ففي هذا الإطار أقدم الوالي العام : الأميرال ديكايدون ( Degueydon ) على غلق المدارس القرآنية ومنع الحج إلى بيت الله الحرام معللا ذلك بقوله : إن الأهالي ، كلما عادوا من موسم الحج ، ازدادوا تمردا علينا " . و في هذا الإطار كذلك صدر قانون فرنسة الأراضي بتاريخ 26 /07 /1873 ، وقانون الإندجينا سنة 1881 ، و قانون الحالة المدنية في 27 /03 / 1882 ، و أنشئت ، تتويجا لكل ذلك ، جمعية الدراسات الجزائرية سنة 1887 ، و تم الإعلان ، مع مطلع القرن العشرين ، على الاستقلال المالي بموجب القانون المؤرخ في 19 /12 /1900 . وتعميما للفائدة ، فقط ، نشير إلى أن الوالي العام " دو كيدون " هو الذي وضع المشروع الأول لقانون الإندجينا وجعله يتضمن ثلاثة أنواع من العقوبات التي يستطيع الكولون فرضها على " المسلمين " دون الرجوع إلى أسلاك القضاء المعروفة في فرنسا آنذاك . ويأتي في مقدمة تلك الأنواع ما يسمى بالمسئولية الجماعية التي سوف يلجأ إليها الجيش الاستعماري مع بداية الثورة التحريرية قصد إرغام أفراد الشعب الجزائري على الانفصال عن جبهة التحرير الوطني . أما النوعين الثاني والثالث فهما : النفي خارج التراب الوطني و حق الإدارة الكولونيالية في إنزال العقوبة التي تريدها على من تشاء من " الأهالي " من دون الرجوع إلى أي قانون . و حيث أن " دو كيدون " لم يسعفه الحظ ليرى مشروعه قد تحول إلى قانون ، فإن خلفه السيد : " ألبير كريفي " هو الذي تولى إعادة صياغة المشروع و تقديمه إلى البرلمان الذي صادق عليه في جلسته المنعقدة بتاريخ 28 /06 /1881 .و للتذكير ، فإن قانون " الإندجينا " يتضمن ثلاثا وثلاثين حالة عسفية يعاقب عليها " الإندجين " أو " الأهلي " قصد حمله على الطاعة العمياء وجعله يخضع للإدارة خضوعا مطلقا " . وعلى سبيل المثال ، نذكر من بين الحالات المشار إليها : أن الإدارة الكولونيالية ، أيا كان مستواها ، و كذلك الكولون النافذين يستطيعون تغريم " المسلم " لأنه ينتقل من قريته إلى قرية أخرى من دون إذن مسبق ، و عند الحاجة ، تتحول الغرامة إلى سجن أو إلى سخرة في إحدى مزارع الكولون . و إذا أقام " العربي " حفلا، بمناسبة أو من دون مناسبة ، و لم يسترخص لذلك ، فإنه يعاقب سجنا أو يرغم على دفع إتاوة لا تقل عن كلفة الحفل . ويعاقب " الأهلي " كذلك إذا تجرأ واستقبل أقاربه أو ذبح خروفا أو ديكا لإطعامهم من دون إذن مسبق ، ويسجن عندما يوجد في الغابة أو حتى في الأماكن المجاورة لها . فالمحاور الأساسية التي ينبني عليها هذا المجتمع الاستعماري ، إذن ، يمكن تلخيصها في الاستيلاء على الأرض بجميع الوسائل والعمل على طرد " المسلمين " المغتصبة أراضيهم إلى أعماق الصحراء ، و تكثيف الجهود وتنويعها من أجل إقامة دولة تكون شبيهة بما كان موجودا في جنوب إفريقيا ، وفي إطار هذه الدولة تعطى كل الإمكانيات لسلك الرهبان ينصرون أكبر عدد ممكن من سكان منطقة القبائل الذين يرى فيهم لا فيجري مادة هشة و قابلة للقولبة بكل سهولة ، مع العلم أن محاولاته ، في معظمها ، باءت بالفشل . يشهد على ذلك رد فعل جماعة " تيزي وزو " و جماعة " آيت فارح" و جماعة " الأربعاء " التي لم تكتف بالرفض بالكلمات بل كانت ، في كل مرة ، تتفنن في إهانته ومن معه ، مهددة إياه باستعمال العنف إن هو تمادى في " اعتداءاته السافرة و تصرفاته اللا مقبولة ". و لتجسيد هذا المجتمع على أرض الواقع ، اعتمدت الإدارة الكولونيالية على إمكانياتها الرادعة المتمثلة ، خاصة ، في الأجناد وفي أسلاك الجندرمة والبوليس وحراس الغابات ، بالإضافة إلى جيش العملاء من مخبرين وقواد وأغوات وباشاوات . فبواسطة كل هذه الأدوات المدعومة بالعديد من النصوص ، كان الساسة الفرنسيون يعتقدون أن في مقدورهم الحفاظ على "العمالات" الثلاث كمصدر لازدهار الجالية الكولونيالية وكوسيلة لدعم الاقتصاد في ما كان يسمى بالوطن الأم .