للفنان التشكيلي الفرنسي (أنطوان جان جرو Antoine-Jean Gros) لوحة شهيرة أنجزها في عام 1804 بطلب من نابليون على أساس أن تلخص مرحلة من مراحل حملته على مصر والشرق الأوسط. وهي تمثل زيارته للمصابين بالطاعون في يافا على إثر احتلالها واستسلام حاميتها. والحقيقة التاريخية التي أوردها من رصدوا الحملة الفرنسية هي غير ذلك. نابليون لم يقترب أبدا من أولئك المصابين، ولم يلمس أحدا منهم، بل أمر بتسميمهم جميعا، لأنه على حد قوله، ما كان قادرا على اصطحابهم في طريق العودة إلى مصر، ولا كان مستعدا لإخلاء سبيل العساكر الأتراك الذين ألقوا السلاح. وهناك شهادات كثيرة على دموية نابليون سجلها عدد من كبار ضباطه وأطباء جيشه. وقد دون فرانسوا ميو François Miot الذي كان أحد مقربيه خلال الحملة على مصر جميع الوقائع التي تتعلق بتنقلات الجيش الفرنسي، ووصف وصفا بليغا ما حاق بأولئك العساكر الأتراك الذين استسلموا في يافا بعد أن تلقوا الضمانات من قبل نابليون نفسه بالإبقاء على حياتهم، وكيف تنكر لوعده وأجهز عليهم جميعا في اليوم الثالث. والمقطع التالي مأخوذ عن كتاب مذكرات الناثر الفرنسي البليغ شاتوبريان الذي اجتزأه بدوره من كتابات فرانسو ميو: )عند وصول السجناء إلى الكثبان الرملية الواقعة في الجنوب الغربي من يافا، صدر الأمر بالتوقف قبالة مستنقع اصفرت مياهه الراكدة. عندئد قام الضابط بتوزيع السجناء ضمن فرق صغيرة اقتيدت نحو أماكن مختلفة وأطلقت النيران على الجميع. تطلبت هذه العملية الرهيبة وقتا طويلا على الرغم من أن عدد الفصائل المكلفة بتلك المذبحة الجهنمية كان كبيرا. وينبغي أن أعترف بأن أفراد تلك الفصائل لم يقدموا على ذلك إلا على مضض.. كان هناك بالقرب من المستنقع عدد من السجناء، وكان بينهم قادة طاعنون في السن ذوو نظرات فيها الكثير من النبل والشموخ الراسخ. وإلى جانب هؤلاء، كان هناك شاب اهتزت معنوياته أيما اهتزاز. فلقد ذهب به الظن في مثل هذه السن الغريرة إلى أنه بريء، وهو الأمر الذي حدا به إلى القيام بأمر بلبل أولئك الذين يحيطون به. وبالفعل، بادر إلى قوائم الجواد الذي يمتطيه الضابط المسؤول عن تلك الفصائل ، وقبل ركبتيه مترجيا إياه أن يخلي سبيله. جعل يتصايح: بماذا أنا متهم، يا ترى؟ أي ذنب ارتكبته؟ غير أن دموعه وصيحاته المؤثرة كانت بلا طائل، ولم تغير شيئا من مصيره. وباستثناء ذلك الفتى، فإن جميع الأتراك الآخرين عمدوا إلى التوضؤ بذلك الماء الراكد، ثم أمسك بعضهم بأيادي بعضهم الآخر بعد أن رفعوها نحو قلوبهم وشفاههم على طريقة التحية الإسلامية، وتبادلوا إشارات الوداع. بدت أرواحهم الشجاعة وكأنها تتحدى الموت، فكنت ترى في سكينتهم الثقة التي يوحي لهم بها دينهم والأمل في حياة سعيدة. بدا عليهم وأنهم يقولون : نغادر هذه الدار لكي نرحل ونتمتع بسعادة دائمة بالقرب من محمد )ص(. هذه السعادة الأخروية التي وعدهم بها القرآن هي التي كانت تثبت أركانهم، إذ على الرغم من هزيمتهم كانوا معتزين بما نالهم أيما اعتزاز( . تلك هي حضارتهم التي خرجت من عصر التنوير!