عندما أحس بيغين باتجاه كارتر لاقتراح مشروع جديد سارع فقدم له التعهد الكتابي القديم الذي كان كيسنجر قد التزم فيه بعدم التقدم بأي مشروع يتعلق بتسوية النزاع العربي الإسرائيلي قبل التشاور حوله مقدما مع إسرائيل، وكان رضوخ واشنطون، كما يقول كامل، ضربة قاصمة للمركز التفاوضي المصري في كامب دافيد. ويقول غالي أن الرئيس ((وافق على التوقيع على وثيقة مُعدّلة لم يعرف أحدٌ منا شيئا عن مضمونها (..) وقال لنا أنه وافق لأنه كان مقتنعا أن بيغين سيرفض (..) غير أن وليم كوانت أبلغني بعد ذلك بوقت طويل أن السادات كان قد أعلم الأمريكيين بموقفه المتخاذل)) ولم يكن مؤكدا أن كارتر وعد السادات بشيء، فقد نفى الرئيس الأمريكي وجود صفقة، وكانت الحقيقة أن ما تم التوصل إليه كان مجرد إطار للحل، وهو بوضوح، حلّ مصري/ إسرائيلي، ويروي هيكل أن بيغين قال لكارتر بأن ((السادات يُمكن أن يأخذ لمصر بمقدار ما يُعطي من فلسطين)) (ص 428) ولم يدرك الرئيس المصري أنه كان بموقفه ينسحب بمصر من الوطن العربي ويحصر مستقبلها وراء سيناء، وفيما يتعلق بفلسطين فقد وقع الرئيس على بند يقول بأنه ((إذا تقاعس الملك حسين عن أداء دوره في الاستقلال الذاتي (الذي لم يُستشر فيه الفلسطينيون) فإن مصر سوف تكون مستعدة لأداء هذا الدور))، ويقول له كامل (ص 545) بأن: ((هذا مستحيل عمليا، وعلى أي أساس؟ وماذا نعرف نحن عن الضفة الغربية؟ ثم إن علاقاتنا مع المنظمة مقطوعة ومتوترة وقد يؤدي تدخلنا في الضفة إلى الاصطدام بها فماذا سيكون الوضع، وأجاب السادات بعنجهية : سأرسل قوات مصرية إلى الضفة الغربية، وأنا أعلم أنه قد يُقتل عدد من أفرادها ولكنهم سيقتلون عشرة من أفراد المنظمة مُقابل كل مصري يُقتل، وقلت له وأنا أكبح جماح غضبي : هذا جنون، إن عدوّنا هو إسرائيل وليس الشعب الفلسطيني الذي قمت بمبادرتك لحل مُشكلته)) ولم يكن ذلك جنونا بقدر ما كان استهانة بالدماء العربية، بما في ذلك الدماء المصرية، وهو ما يبرز مرة أخرى خلفية السادات في مأساة لارناكا. ويرفع كامل مذكرة للرئيس كان أسلوبها السيكولوجي الهادئ المرن: ((يستهدف أن يتجرع السادات محتوياتها بما يُشعره بأن فشل كامب دافيد لا يعني فشل مبادرته ونهايتها، وبما لا يثير جزعه من أن يؤدي ذلك إلى صدام بينه وبين كارتر، الذي بات يعتقد أنه أمله الوحيد وحجر الزاوية في علاقاته الدولية، وحتى يتقبل، بصورة لا تمسّ كبرياءه ولا تجرح مشاعره، التوجه من جديد إلى العرب بصورة متدرجة، تبدأ بالاتصال بالزعماء المعتدلين، ثم مؤتمر قمة مصغر يؤدي بدوره إلى موقف عربي موحد ونهائي لتحقيق السلام)) كان ذلك في سبتمبر وقبل مؤتمر الصمود والتصدي في دمشق (20-23 سبتمبر 1978) وقبل أن يتسرب شيئ عن مرض الرئيس بو مدين، الذي كان قال بأنه على استعداد للذهاب إلى القاهرة والاعتراف علنا بخطئه إذا نجحت مبادرة السادات، وبأنه على استعداد لوضع كل إمكانياته في خدمة مصر إذا كان هناك تراجع عن مبادرة لم تؤدّ النتائج المرجوة منها، وكان خطاب الرئيس بو مدين عن التوازن الاستراتيجي مع العدو الصهيوني تحليلا بالغ العمق شديد الأهمية، لدرجة أن الرئيس الفلسطيني قال، عندما أعطيت له الكلمة بعده : ما الذي يمكن أن يُقال بعد ما قاله //المعلم//. ويقول كامل (ص 558) أن السادات كان يطمح إلى أن يصبح حليف أمريكا وشرطيها، وكان يعتقد أن مدخله إلى ذلك هو معاداته للاتحاد السوفيتي وإهانته، واستعداده لأن يقوم لحساب واشنطون بالتصدي للوجود السوفيتي في الشرق الأوسط وإفريقيا، بالإضافة إلى مساندته للنظم التي تدور في فلك أمريكا كنظام موبوتو، ولعل قيامه بمبادرته لإقرار السلام مع إسرائيل يدخل في خلفياتها استرضاء أمريكا وكسب ودها. ويستنتج هيكل أن السادات قدّر أن الوضع في مصر يقتضي حركة سريعة تشغل الناس بفوائد السلام، وتلفت أنظارهم بعيدا عن عملية التفاوض، ثم تلهيهم بعيدا عن القضية الفلسطينية وعن غيرها من القضايا العربية، ومن هنا كانت ضرورة تحريض الشارع المصري ضد كل ما هو عربي بحيث يُصبح العرب هم العدوّ الرئيسي، لكن شاغله كان السعوديون، فهم مصدر تمويل رئيسي، وخط اتصال ضروري مع واشنطون، ولهم في المنطقة وزنٌ يعادل موقف الرافضين، ولهذا طلب من كارتر أن يقنع الرياض بالتحفظ في ردة فعلها على كامب دافيد، وكان يتصور أن السعودية ستتخذ أي موقف تشير به واشنطون، مثلها في ذلك مثل الأردن. ويعود الرئيس إلى القاهرة ليجد في استقباله آلافا مؤلفة جاءت //عفويا// لاستقباله بالهتافات والشعارات المُهللة، ويقول غالي (ص 162) الاستقبال الحماسي مُدبّر، لكن موقف الأصدقاء والزملاء في القاهرة كان سلبيا إزاء كامب دافيد (..) وفي غضون أسبوع كنا أعددنا العدة للعودة إلى واشنطون لتحويل إطار كامب دافيد إلى معاهدة سلام (..) وكان المشروع من 22 مادة (هناك اتفاقية كامب دافيد في سبتمبر 1977 ومعاهدة السلام التي بُنيت عليها في مارس 1978) ويحدث، كما يروي هيكل (عواصف ص 430) أمر بالغ الغرابة شديد الدلالة، فقد قرر السادات أن يُكلّف نائبه، محمد حسني مبارك، بتشكيل الوزارة الجديدة، وبدأ مبارك فعلا في مشاوراته، لكن السفير الأمريكي يطلب موعدا عاجلا مع الرئيس ليقول له بأن تكليف مبارك مجازفة لا داعي لها، فهو الاحتياطي الضروري له (؟؟؟) وتعريض النائب لمسؤولية رئاسة الوزراء تعني حرقه (وأذكر بأن هذا حدث قبل اغتيال السادات بنحو ثلاث سنوات) ويستقرُّ رأي الرئيس على تكليف مصطفى خليل برئاسة الحكومة، التي سيُقصى منها آخر أبطال حرب أكتوبر وهو الفريق الغمسي. واحتضنت واشنطون لقاءات وزارية ثلاثية في أكتوبر (..) وتناول الوفد المصري الغداء على مائدة أشرف غربال بالسفارة المصرية، وبحضور عدد من السفراء العرب في العاصمة الأمريكية، ويقول غالي ((شرحت لهم الجهود المصرية (..) وعندما علم السادات بهذا اللقاء استشاط غضبا (ص 169) وبعث إلينا ببرقية تطلب منا ألاّ نضيع الوقت في الحديث للسفراء العرب، وزعم (بنص كلمات غالي) بأنه لا يحتاج إلى تأييد عربي (..) كانت التعليمات الواردة من القاهرة غامضة، والإسرائيليون يستهدفون دفعنا إلى سلام منفرد (..) كانوا يريدون تحييد مصر تماما وإبعادها عن الساحة العربية (..) والحقيقة أن الأمريكيين كانوا يعرفون القرار المصري قبلنا، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي نكتشف فيها أن الأمريكيين يقفون على تعليمات القاهرة قبل وصولها إلينا، نحن المفاوضين المصريين في واشنطون)) (ولا يقول غالي هل هو اختراق لنظام المراسلات السرّية المصرية أم أن هناك في مصر من يزود الأمريكيين بالمعلومات، ومن هو؟) آنذاك عُقدت القمة العربية في بغداد، وكان الشعور العربي المُضاد لاتفاقيات كامب دافيد التي وقعها السادات أساسا لعقد القمة في نوفمبر 1978(رياض ص 528، وليس 1977 كما جاء خطأ في الكتاب) وأثار المؤتمر، الذي لم تدعَ له مصر، غضب السادات، في حين قال الرئيس أحمد حسن البكر في افتتاحه أشغاله : ((أننا لا نريد أن نجادل في حق كل حاكم التصرف في إطار مبدأ السيادة على أرضه، لكن الصراع بين العرب وإسرائيل هو صراع سياسي وعسكري واقتصادي وحضاري، بالإضافة إلى أنه صراع على الأرض والسيادة الوطنية والقومية (..) نحن لا نسعى لعزل مصر (..) السادات هو الذي يتحمل المسؤولية، وهو الذي ترك أمته وإرادتها وإجماعها، ولم يكن العرب هم الذين تركوه)) كان الرئيس هواري بو مدين آنذاك يعاني من تطورات المرض الغامض الذي أودى بحياته في الشهر التالي مباشرة، وكان عبد العزيز بو تفليقة هو الذي ترأس الوفد في بغداد، واقترح رياض آنذاك، بوصفه أمينا عاما لجامعة الدول العربية، أن يسافر وفد من الرؤساء بقيادة الملك حسين لملاقاة السادات، وكان اقتراحا ساذجا يبدو منه أن رياض حاول أن يوفق بين مهمته العربية وجنسيته المصرية، خصوصا وقد اعترف لمن ناقشوه بأنه لا يعتقد أن السادات سيتراجع عمّا التزم به في كامب دافيد (ص 535) وأمسك المؤتمر بالعصا من الوسط وكان هذا أسوأ من الاقتراح الأصلي، إذ تقرر إرسال وفد وزاري إلى القاهرة، واختلط سوء التصور بسوء التصرف، وأدى هذا إلى ثورة السادات ضد المؤتمر، خصوصا وأن بعض وسائل الإعلام صوّرت الوفد وكأنه يحمل إنذارا له، وهو ما لم يكن صحيحا، وسيكون من أهم نتائج المؤتمر تنفيذ ما كان السادات نفسه قد تناوله وهو نقل مقر الجامعة العربية من القاهرة. لكن المؤتمر شدد في قراراته بضرورة ((استمرار التعامل مع شعب مصر العربي الشقيق ومع أفراده، عدا المتعاونين بصورة مباشرة أو غير مباشرة مع العدوّ الصهيوني، والحرص على إبقاء مصر، أرضا وشعبا، جزءا من الأمة العربية والوطن العربي، ويحث المؤتمر كافة البلدان العربية على الاستمرار الطبيعي مع أبناء شعب مصر العاملين والمتواجدين في البلدان العربية ورعايتهم وتعزيز انتمائهم القومي للعروبة، والتفريق بصورة واضحة بين الموقف من الحكومة المصرية ومن الشعب المصري المعتز بعروبته، والذي قدم أغلى التضحيات من أجل القضية العربية وقضية فلسطين بالذات، كما يحث المؤتمر على الاستمرار في التعامل مع المؤسسات المصرية التي يتأكد امتناعها عن التعامل مع العدوّ الصهيوني وتشجيعها على العمل والنشاط في البلاد العربية في إطار الميادين التي تعنى بها، كما يرى المؤتمر ألا تشمل الإجراءات التي تتخذ في هذا الصدد النتاج الفني والثقافي لشعب مصر)).