في مبادرة، تعتبر الأولى من نوعها تأتي من مسؤول في الجزائر منذ استعادة السيادة الوطنية، أغتنم وزير الاتصال فرصة لقاء مع الصحافة بالمجلس الشعبي الوطني، ليقدم، كما جاء في الصحف، اعتذاره الرسمي للجمهور الجزائري على البرامج التي تم بثها على شاشة التلفزيون الجزائري خلال شهر رمضان. الوزير أعلن أيضا بأن التلفزيون الجزائري مطالب من الآن فصاعدا بتحسين أدائه لتقديم خدمة عمومية أفضل تستجيب لتطلعات المواطنين. إنه كلام جميل، كنا ننتظر سماعه منذ زمن طويل، لكن السؤال الذي يطرح هو: هل بإمكان التلفزيون الجزائري كأفراد وهيكل تنظيمي ووسائل أن يغير ما بنفسه؟ وهل أمر تغيير محتوى التلفزيون يتعلق فقط بقرار فوقي؟ بداية، لا بد من ملاحظة أن معظم المسؤولين على مستوى قطاع الإعلام في الجزائر، نشؤوا، وترقوا، في إطار المؤسسات العمومية منذ زمن ما كان يعرف باسم الدولة الاشتراكية. هؤلاء، يظهر من تصرفاتهم ومن ممارساتهم، أنهم لم يدركوا يوما معنى الخدمة العمومية. هذا مفهوم، ظهر وتطور في المجتمعات التي يتوفر فيها حيز كبير من حرية التعبير واستقلالية الرأي والتداول الحر على السلطة والشفافية التامة في تسيير أمور الناس واعتبار الكفاءة هي المقياس الأساسي في تولي المناصب العليا في الدولة. الخدمة العمومية، تعني أساسا أن يدرك كل العاملين بمؤسسات الدولة، من أعلى مسؤول إلى آخر بواب، بأنهم كلهم في خدمة الصالح العام بدون تمييز لأنهم، أولا، يتقاضون راتبهم من الخزينة العمومية أي من جيب المواطن مباشرة؛ وثانيا، قبلوا، أو سعوا، إلى تولي المناصب التي هم فيها ولم يفرضها عليهم أحد. لو كان هناك وعي شعبي بمعنى الخدمة العمومية لبادر المواطنون الجزائريون، منذ زمن بعيد، برفع قضايا أمام المحاكم لمطالبة التلفزيون الجزائري بالتعويض على التضليل الذي يمارسه في حقهم وعلى تهميش قضاياهم وانشغالاتهم الحقيقية وعلى عدم قيامه بمهامه الأساسية المحددة في برنامج أعبائه وكذلك على رداءة برامجه وانسحابه من الميدان تاركا الجمهور الجزائري "فريسة" لتنافس القنوات الأجنبية. الخدمة العمومية تعني، في نظر المسؤولين عن القطاع الإعلام في الجزائر، وذلك ظهر باستمرار من خلال تصرفاتهم، إنها نوع من الاتصال يسير في اتجاه واحد أي من السلطة إلى المواطن دون أن يكون لهذا الأخير أي حق لإبداء رأيه أو مجرد إظهار أدنى أنواع الامتعاض أو الاعتراض على ما يقال؛ هم يكادون يصنفون المعارض وصاحب الرأي الآخر في خانة الخيانة بينما النظم السياسية القوية والباحثة عن الدوام هي نلك التي تفتح كل المجالات أمام المعارضة السياسية التي تنشط في إطار القانون لتبدي رأيها بكل حرية لأن قوانين الجمهورية تضمن ذلك. لا بأس أن نذكر هنا بموقف أحد المسؤولين السابقين عن التلفزيون الذي بلغ به التعصب وقلة الحياء حد القول لأحد السياسيين المعارضين وبالحرف: "لن تمر أبدا على شاشة التلفزيون ما دمت أنا هنا". أليس هذا أشد أنواع الصلف وإلا بأي حق يقرر مجرد مسؤول عن مؤسسة عمومية من يمر ومن لا يمر بهذه المؤسسة؟ المشكل الآخر الذي يعاني منه التلفزيون الجزائري، هو تعدد الجهات التي تأمره وتتحكم في برامجه، خاصة السياسية منها. الأمر ليس جديدا، فمنذ استعادة السيادة الوطنية على هذا الجهاز الإعلامي وهو محل رقابة مشددة. المتابعون لشأن التلفزيون يقولون أنه، في زمن هواري بومدين، رحمه الله،كان مدير الإعلام برئاسة الجمهورية هو من يراقب ويقرر ما يصلح وما لا يصلح للبث، وفي زمن الشاذلي بن جديد تعددت، في مرحلة معينة مصادر القرار، لكن رئيس الجمهورية سرعان ما وجه إنذارا واضحا للجميع بأن يكفوا عن التدخل في شأن هذه الوسيلة الثقيلة بتنصيبه شخصيا لمدير جديد عينه على رأس هذه الهيئة، حيث فهم تصرف الرئيس على أنه رسالة واضحة معناها أن التلفزيون يتبعه مباشرة. ومنذ ذهاب الشاذلي بن جديد، تعددت الجهات التي تراقب وتوجه التلفزيون، وكان من النادر جدا أن يكون لوزير الاتصال سلطة معينة على هذه الوسيلة الاتصالية. السيد وزير الاتصال قال أيضا بأن على التلفزيون أن يحسن أداءه ويفسح المجال للرأي والرأي الآخر. جميل جدا هذا الكلام، لعل الوزير هنا يضع أصبعه على مكمن الداء الذي ينخر جسم التلفزيون الوطني. البداية تكون إذن بتحسين الأداء الذي لن يتحقق، في نظرنا، إلا بفتح المجال أمام المنافسة. تحسين الأداء مرتبط أساسا بثلاثة عناصر رئيسية هي: الفرد، الوسائل وحرية الإبداع في إطار ما يسمح به القانون. لنبدأ بالفرد، الذي هو القوة المحركة لكل عمل جيد بحيث لا يمكن إنجاز أي مشروع بدون قوة بشرية متعلمة ومتطورة. هذه القوة البشرية متوفرة بالجزائر وبرهنت، كلما أتيحت لها الفرصة، على كفاءتها، كما أنها أصبحت محل استقطاب من طرف الغير أي الدول والأجهزة الإعلامية الأجنبية فأكبر القنوات الدولية تتسابق لتوظيف الصحفيين والتقنيين الجزائريين. بعد الفرد تأتي الوسائل، وأمر توفيرها لا يطرح أي مشكل مادامت هناك موارد مالية وإرادة لدى السلطة في تطوير القطاع. يبقى الأهم، وهو حرية الإبداع الذي يفترض توفر حيز كبير من حرية التعبير وإرادة واضحة، من طرف المسؤولين على الأقل، للسير نحو الحداثة؛ إذ لا يمكن تصور أي تحسين للأداء أو أي إبداع في جو من الخوف، أو القيود الإدارية، أو تحكم في المحتوى من طرف أناس لا خبرة لهم في مجال الاتصال، أو تحت أنماط ونظم اجتماعية وفكرية وثقافية متخلفة أو سادت في زمن معين وتحت أنظمة معينة أو في وقت كانت الجزائر فيه ترزح تحت نير الاحتلال. تحسين الأداء، في مجال الاتصال، يفترض فتح المجال واسعا أمام المنافسة. هكذا هي الطبيعة البشرية، لا تبدع إلا إذا حررت من القيود وواجهت غيرها أو شعرت بالخطر على مصيرها أو على مصالحها. مما سبق، نصل إلى أن تحسين الأداء مرتبط أساسا بتحرير قطاع السمعي بصري. بدون فتح المجال أمام القطاع الوطني الخاص ليساهم -في إطار قوانين واضحة وبرامج أعباء محددة ولجنة عليا للسمعي بصري تراقب كل ما يبث- في إنشاء قنوات تلفزيونية ببرامج ذات محتوى جيد لا يتنافى والذوق العام. بدون هذا، لا يمكن أبدا للتلفزيون العمومي، مهما تعددت قنواته، أن يتطور أو يتحسن أو يستعيد الجمهور الجزائري إلى التلفزيون الجزائري. الأمر، لا يتعلق أبدا بالعاملين في هذه المؤسسة ولا بالوسائل التقنية المتوفرة، أو التي يجب توفيرها، بل بالطبيعة القانونية للتلفزيون العمومي الذي لا يمكنه، لأسباب عديدة، تلبية كل الأذواق والتعامل مع الأحداث الوطنية والدولية بكل موضوعية. التلفزيون العمومي هو ضروري ويجب أن يبقى ويستمر لكنه أعجز من أن ينافس القنوات الدولية أو حتى أن يخدم المشروع الوطني التحرري على أكمل وجه. كمختص في الاتصال، لا أفهم كيف أن المواطن الجزائري الذي يستقبل في بيته أكثر من ألف قناة تبث بكل اللغات وبكل المحتويات ليس من حقه أن يستقبل قناة جزائرية ينشئها جزائري مثله بمحتوى جزائري وبمال جزائري ولخدمة المواطن الجزائري في إطار قوانين الجمهورية الجزائرية. لا يوجد أي بلد في العالم سلم مواطنيه بالجملة إلى القنوات الأجنبية كما هو الشأن في الجزائر. دراسات عديدة، قام بها طلبة كلية العلوم السياسية والإعلام، تؤكد بأن الإقبال على مشاهدة التلفزيون الجزائري ينحصر وبنسب قليلة جدا في شريحة عمرية لا يقل سنها عن الأربعين سنة، أما الباقي، أي كل الشباب، فأنظارهم موجهة إلى سماوات أخرى. حول هذه الظاهرة، سبق لي أن قلت في إحدى الندوات التي نظمت بالجزائر العاصمة، أن أخشى ما أخشاه أن يأتي يوم تضطر فيه السلطة إلى شراء »حيزات« إشهارية في القنوات الأجنبية لتتمكن من التوجه للمواطنين الجزائريين. لا نحتاج إلى الكثير من الذكاء، أو بعد النظر، لإدراك إن كل تعطيل في فتح مجال السمعي بصري هو تأخير في استعادة المشاهدين الجزائريين إلى الاهتمام بقضايا جزائرية، فلماذا نستمر في السير في دوائر مغلقة؟.