إنه العيد والذكرى، إنها الفرحة والوفاء.. يحتفل الشعب الجزائري بذكرى غالية، عزيزة على النفس، إنها ذكرى استرجاع الاستقلال وعيد الشباب. في مثل هذا اليوم الأغر، منذ ستة وخمسين عاما، رفرفت رايات النصر على ربوع هذه الأرض الطيبة، رفعتها السواعد الأبية، مخضبة بدماء من تسابقوا على درب الشهادة والفداء، فكان النصر حليفهم. وإذا كانت قائمة المكاسب والمنجزات التي تلون خارطة الوطن وتنعكس آثارها على حياة أبناء هذا الشعب وبلغت من الشمول والتنوع، ما لا يتسع المقام لملاحقته عدا وتفصيلا، فضلا عن كونها أصبحت أثرا ملموسا وحياة معاشة، ويحق لكل واحد من أبناء الشعب الجزائري أن يعتز ويباهي ويفاخر بما تحقق من مكاسب ثمينة. استطاع الشعب الجزائري أن يرفع التحدي وينجح خلال سنوات صعبة، حافلة بالأعمال والإنجازات في مواجهة آثار الاحتلال وما خلفه من دمار وخراب وأضرار فادحة في المنشآت والنفوس على السواء، حيث وطد الاستقرار وكرس الوحدة الوطنية ونهض بأسس الجمهورية وأركان الدولة الحديثة. إن الاستقلال الذي انتزعناه بتضحيات جسام هو الآخر بحاجة إلى "استقلالات" أخرى في مختلف المجالات الاقتصادية والعلمية والثقافية، وهي كلها تتطلب تضحيات ضخمة من الأجيال الشابة، التي هي مدعوة إلى بذل مزيد الجهد والعطاء للمحافظة على الاستقلال وصيانة مكاسبه. وإذا كان من الطبيعي والمشروع أن يحلم الجزائريون بحياة كريمة ومستوى معيشي بمثل ما هو عليه في الدول المتطورة وبمستوى اجتماعي وعلمي يماثل ما هو عليه في تلك البلدان، فإن أحلام اليقظة ليس من شأنها أن تغير أوضاع الشعوب نحو الأفضل، لا سبيل إلى الحلم وتحقيقه على أرض الواقع إلا بدفع ضريبة العمل والانضباط والثقة في النفس والاعتماد على الذات دون بخل وبلا حساب، وبصبر وثبات. إن التحكم في تنمية شاملة مستدامة تراعي الإمكانيات والأولويات هو رهان النجاح في النهوض بالمجتمع وتمكينه من تجاوز رواسب التخلف والخروج من حصار التبعية للالتحاق بركب الحضارة والأمم المتقدمة، ذلك أن الاستقلال الحقيقي لأي أمة يكمن في قدرتها على تملك ثروتها واستثمار طاقاتها وتنويع مصادر عيشها وتأمين حاجياتها الأساسية، مما يحقق لها القدر الأوفر من الكفاية والتوازن والمناعة التي تضمن لها استقلاليتها وسيادتها. إنه لا جدوى من البحث عن أمن استراتيجي للأمة في وقت لا نزال فيه بعيدين عن تأمين جزء مهم من أمننا الغذائي والدوائي والصناعي والثقافي والتكنولوجي وغيره ونعول في ذلك أساسا على الخارج بالاستيراد الذي يتزايد سنة. إن الاحتفال بعيد الاستقلال يحقق معناه في مواصلة الجهود من أجل القضاء على مختلف أسباب ومظاهر التخلف المترسبة في المجتمع، من خلال بذل الجهود الدائبة ضد الأمية والجهل والمرض وكذا التصدي للأمراض الاجتماعية، ذلك أن المدنية ليست بضاعة تشترى للاستهلاك إنما هي نتاج تراكم الفعل الحضاري للمواطن بما أنه الركن الأساس في بناء أي مجتمع متقدم، هي فكر علمي وسلوك أخلاقي مسؤول ومواطن ملتزم بثوابت الأمة وأولوياتها في احترام القانون ومؤسسات الجمهورية، يتحرر من الضعف والسلبية والاتكال والمحسوبية وينبذ الفوضى والفتنة والفساد بكل أنواعه من رشوة ونهب وتهريب. إن الاستقلال الحقيقي الذي نبتغيه حقا ومن أجله ضحى الآباء والأجداد، يدعونا إلى المضي في ذلك الطريق الشاق والطويل، لأن ما تحقق من مكاسب وإنجازات ليس سوى خطوات أولى يجب أن تزيدنا ثقة وتفاؤلا وإصرارا على الاستمرار في مسيرة البناء والتعمير، وهذا ما يدعو إلى أن يقتدي شباب اليوم بنخبة الأمس، بطلائعها المؤمنة بحق أمتها في الحرية والكرامة والسيادة وأن تستلهم منها الوطنية الصادقة ونكران الذات والتضحية. إن الاحتفاء بعيد الاستقلال مناسبة غالية، نجدد فيها العهد للشهداء الأبرار، نترحم بخشوع وإكبار على من أوفوا بالعهد مع الله والوطن. إنها مناسبة عزيزة، نؤدي فيها واجب الوفاء والعرفان لأبطال الجزائر، الذين روت دماؤهم الزكية الطاهرة هذه الأرض الثائرة. وبقدر ما تبعث فينا هذه الذكرى مشاعر الفخر والاعتزاز بأمجادنا ومآثرنا وبما حققناه، فإنها تستوقفنا لاستقراء التاريخ واستخلاص العبر والدروس، من أجل كسب معركة الحفاظ على السيادة، حتى يكون الاستقلال في عيون الشباب مقرونا بجزائر الحرية والعدالة والنهضة، ومتجاوبا مع رسالة الشهداء، وما أكد عليه بيان أول نوفمبر.. وكل عيد استقلال والجزائر بألف خير.