تغرق كثير من النخب العربية في جدل عقيم حول وصف ما جرى في تونس ومصر، فهناك من يعترض على تسمية الثورة رغم أنه يصر على وصف انقلابات عسكرية سابقة بالثورة، ويجري طرح أسئلة محيرة حول حقيقة ما جرى وما إن كان الشباب الذي خرج إلى الشوارع مطالبا بالتغيير واعيا بما يفعل ومدركا لما يمكن أن تنتهي إليه حركته. سنجد في كل عصر هؤلاء الذين يعتقدون أنهم احتكروا الحكمة، وهم في العادة من الذين يؤثرون السلامة، يجلسون في صالوناتهم ويتسامرون بحديثهم الذي لا ينتهي عن حركة التاريخ، وعن شروط التغيير وحقيقة الديمقراطية، يستعرضون ما تعلموه من الكتب التي يفضلون رائحة أوراقها المصفرة على رائحة البارود ودماء الشهداء وعرق المتظاهرين، فالتغيير في عرف أهل الحكمة يجب أن يتم بسلاسة ودون ضجيج، والمحلات التجارية يجب أن تبقى مفتوحة وحركة المرور تنساب دون عوائق. لقد انقطعت النخب في بلادنا عن الشعب ولم تعد تدرك معاناته، وأكثر من هذا فضلت أن ترتبط بنظام مقطوع الصلة بالعصر فألفت عتمة صالوناته وأصبحت لا تطيق ضوء النهار الذي يواجهها بالحقائق العارية التي تغضب الناس، ففي مصر لم يهضم نقيب الصحافيين في العهد البائد أن يسير سكان العشوائيات في المظاهرات وأن يطالبوا بسقوط النظام، فهؤلاء بالنسبة إليه في أحسن الأحوال يصلحون مادة إعلامية لجريدة تريد أن تبيع أعدادا أكبر، وحتى اللحظة الأخيرة بقي بعض المثقفين يؤمنون بأن الشارع لا يمكنه أن يصنع تاريخا أو يغير نظاما ولولا هذه القناعة لما قبل مثقف بحجم جابر عصفور أن يصبح منشفة بيد مبارك يحاول أن يلمع بها صورة نظامه القذر في اللحظات الأخيرة من عمره. لم يؤمن المثقفون وأهل الحكمة بقدرة الشعب الجزائري على الثورة في وجه فرنسا وتحرير البلاد بعد قرن وثلث قرن من الاستعمار، وهاهو التاريخ يخبرنا اليوم أين هؤلاء من الثورة وشهدائها، ولا يؤمن كثير من المثقفين اليوم بما يجري على الأرض ويفضلون أن يعودوا إلى كتبهم يسألونها عن تعريف الثورة ومعاييرها وكأنهم لم يقرأوا يوما ما قاله أبو تمام السيف أصدق إنباء من الكتب، وإن كان السيف اليوم هو إلمام بالعصر ووسائله وفهم للتاريخ وحركته التي لا يمكنها إلا أن تدور مع وسائل هذا العصر.