يبدو أن انهيارا حقيقيا بدأ يضرب منظومة الحكم العربي، منذ بداية هذا العام، حينما قررّت إرادة الشعوب- التي هي من إرادة الله- إخراج حكامها المستبدِّين من وقتها نهائيا وإلى الأبد، وكما تشابهت الأنظمة »الساقطة«" في القهر والإذلال والفساد، فقد تشابهت في السقوط المخزي والمذل، وكأننا أمام نسخة واحدة تتكرّر، مع تغيير السماء والجغرافيا فقط، ولكن »ظاهرة« الڤذافي ستظل الأبرز في حكايات الساقطين على أيدي شعوبهم، لكونها كشفت أن الحاكم في الدول العربية البوليسية، لا يعرَف فقط بالغطرسة والتسلّط والسفه، ولكنه يتميّز بالجنون وعمى الألوان أيضا . رغم أن انقلابا أبيض خاضه العقيد الڤذافي قبل أربعين عاما، ضد ملك عادل وشيخ مسالم، كان أفاد الأمة العربية أكثر مما أفادها الڤذافي لاحقا بما أسماه ثورة، إلا أن هناك تضامنا كبيرا تلقاه من الدول الجارة، ساعد على ترسيخه الوضع الدولي السائد يومئذ، في محاولة لاستعادة زمام المبادرة، في الصراع العربي »الإمبريالي« الذي أصبحت الصهيونية رأس حربته فيه، ولكن الثوار الجُدُد انحرفوا بليبيا إلى مسار آخر، واستغلوا فترة الكساد الذي كانت تعيشه دار الأهرام المصرية، فاستأجروا عددا من بطّاليها، الذين حرروا للزعيم القائد بعض الأفكار، ستتحوّل فيما بعد إلى ما يحلو للزعيم الليبي »السابق« أن يسميّه الكتاب الخضر، كما جاء في حديث أحد المجاهدين الجزائريين منذ سنوات خلت . تغيّرت الحياة الليبية الأصيلة، بعدما خضعت كلها إلى نواميس الكتاب الخضر، ومعها تلاشت أيضا كل ملامح التغيير والانطلاقة نحو الأفضل، التي تحملها الثورة عادة إلى المجتمع، واختفت كل الألوان الجميلة الأخرى، بعدما أصبحت لونا واحدا هو اللون الأخضر، الذي تحوّل مع الوقت إلى الصفرة وكأنها تنبئ بما سيعيشه الليبيون في حكم رجل واحد استولى على كل مفاتيح الحكم، في اليوم الذي أعلن فيه أنه تخلّى عن السلطة، وأن الحكم هو بيد جماهير الجماهيرية التي وصفها ابنه، الذي يتكلّم باسمها دون تفويض، إنها الديمقراطية الوحيدة في الكون ! سلك الزعيم بليبيا عبر جميع المهاوي التي سجنتها في الفكر العشائري الضيِّق، رغم كل أسباب التقدّم التي يملكها الليبيون، سواء في أخلاق قبائلهم، أو في محصلات علوم أبنائهم، أو في الثورات الطبيعية لبلادهم، وراح يتسوَّل بوحدة مغشوشة، رفضها معظم الذين تغزّل بها على حدودهم، ولمّا لم يجد مَن يستمع إليه من زملائه العرب، اتّجه جنوبا إلى العالم الزنجي، حيث الشعوب ما زالت تعيش آثار الاحتلال، الذي تركها عديمة المناعة عرضة لكل أسباب الفناء، وهناك نصّب نفسه ملك ملوك إفريقيا وزاد عليه صفة إمام مسلميها، بعد ما تبرّأ منه مسلموه، وفي رحلة السقوط الشخصي ألحق بليبيا كثيرا من الأعطاب، وأحدث للعروبة والإسلام كثيرا من التشوّهات، وألصق بحركات التحرر الوطنية كثيرا من الأضرار، حينما أحال كل الاخضرار الذي رفعه- وما زال- إلى لون أحمر قاني من دم شعبه، لم يبقَ أحدٌ من العالمين لم يطالب بمحاسبته عليه . لم تسلم دول الجوار كلها من مزاجيات الزعيم ومضايقاته، فقد تسلّط على تونس الصغيرة، وأرغم مصر على أن تُحوِّل وجهة جيشها إليه، وشنّ حربا في تشاد، وفعل ما فعل في النيجر، ولكن تكون الجزائر من أكثر المتضررين من مزاحه الثقيل، فقد حاول أن يُحي لها المصطلح "الاستعماري" القديم : دول الساحل، ويجعل منه هاجسا كبيرا لما يُسمّى القاعدة، بل ذهب به الأمر إلى محاولة إغراء المواطنين الجزائريين الطوارق وإرشائهم، من أجل خلق كيان منفصل لكل طوارق الصحراء الكبرى، يكون هو زعيمه وخزينته المالية، ورغم أن وطنية هؤلاء المتأصِلة، منعته من تحقيق شذوذه إلا أن تشويشا وتوتّرا ظل يحدث على أطراف الجزائر الجنوبية، وربما قد يتفاقم نتيجة نزوح قبائل كثيرة فرّت إلى المنطقة من هول ما صنعه في الشمال . كل ذلك وغيره مما صنعه »الأخ العقيد« هان، وتجاوزته المنطقة، بفضل إستراتيجية الاتِّزان التي حافظت فيها الجزائر على شعرة معاوية، بين نظامه- أو لا نظامه على الأصح- وبين ضمان استقرار الحدود، وتأمين احتياجات مواطنينا فيها إلا أن الذي أظهره- من قسوة وهمجية- في مواجهة احتجاجات شعبه السلمية، قد جعل منه »ظاهرة« غريبة لا بد من دراستها في معاهد العلوم الاجتماعية والنفسية، ومراكز الدراسات السياسية والإستراتيجية، فقد قابل شعبه- الذي قال إنه َيحكُم نفسه بنفسه- بقصفٍ وحشيٍّ بالطائرات والمدفعية الثقيلة، لا تقوم بمثله إلا عصابات الاحتلال الصهيوني، وربما يُثبِت ذلك ما ذهبت إليه بعض المصادر التاريخية والإعلامية من أصله اليهودي، فالعرق دساس، ورغم انفضاض الجمْع من حوله، من سياسيين ودبلوماسيين وعسكريين، احتجاجا على تلك المجازر التي طالت أبناءهم، وتضامنا مع الثوار في حقهم للإطاحة، به فإنه لا يرى غير ما يتصوّر أو تأتيه به التهيؤات، بل ويُقدِّم نفس النعوت التي قدّمها زميلاه الساقطان من قبل في تونس ومصر عن الثوار، ويُقسِم حانثا أن »القاعدة« هي مَن يقوم بمحاولة الاستيلاء على الحكم، وإقامة إمارة إسلامية تهدِّد الغرب ومصالحه، وزاد على ذلك بأن هؤلاء المحتجين، ومن انضم إليهم من كل أطياف المجتمع الحر، هم من مدمني المخدرات والمرضى، الذين يقول إنهم قلة قليلة محاصرة، ويُصِرّ على رفض الواقع الذي يؤكِّد أنه هو المحاصر، في قاعدة عسكرية بقلب مدينة طرابلس، التي تزحف نحوها الجموع من كل فجٍّ عميق لم يعد له فيه مكان، كما لا يريد أن يسمع أنه مطلوب للقضاء مرتين: مرة للعدالة الليبية، نظير ما ارتكبه من جُرْم لا يُغتفَر في حق مواطنيه الذين خرجوا في تظاهرة سلمية، فقتل منهم مَن قتل وجرَح مَن جرح واعتقل مَن اعتقل، ومرة للعدالة الدولية، بتهمة الجرائم ضد الإنسانية التي اقترفها في ليبيا، و ربما يكون لا يدري أن التهمتين لا تسقطان بالتقادم، أ ليس ذلك الذي يدعو أتباعه إلى الغناء والرقص والسمر وسط الجثث، ظاهرة تتطلّب الدراسة فعلا !؟!