يبدو أن الرئيس بوتفليقة قد تلقى حقا الرسالة التي وجهها له الشعب الجزائري، عندما قال بأنه لا يطالب فقط بالغذاء، بل يطمح للتغيير السياسي الذي لا يستقيم دونه أي إصلاح، فجاءت الرسالة التي وجهها للشعب بمناسبة ذكرى عيد النصر، مركزة على اعتزامه القيام بإصلاحات سياسية شاملة، فما هي طبيعة تلك الإصلاحات السياسية؟ ومتى سيتم الإعلان عنها؟ وإلى أي مدى تسمح ظروف البلاد بالمضي إلى أقصى مراحل الإصلاح السياسي، مع ما يتضمن ذلك من صعوبات وتحديات سوف لن تخلو منها الساحة السياسية؟ أشارت معظم المصادر إلى المشاورات المكثفة التي يجريها رئيس الجمهورية، في محاولة للخروج بتصور عملي لكيفية الانتقال سريعا إلى مرحلة الإصلاحات الشاملة التي يطالب بها المواطنون، في ظل الحراك السياسي والاجتماعي الذي تشهده البلاد، وأيضا تفاديا لأي انزلاق نحو العنف في ضوء اتساع رقعة الاحتجاجات في العالم العربي والتي وصلت حد التدخل الأجنبي، كما هو الشأن بالنسبة لليبيا. في الجزائر هناك إجماع على ضرورة رفض أي شكل من أشكال العنف السياسي والمساس بالإنجازات التي تحققت في المجال الأمني بفضل تضحيات جسام وجهود كبيرة وخسائر مادية وبشرية طيلة أزيد من عقد. هذا الواقع السياسي يسهل عملية التوصل إلى صيغة إصلاحات، شرط توفر عوامل موضوعية أهمها مبدأ التشاور وإشراك عنصر الشباب بشكل جدي في عملية تحديد ملامح هذا الإصلاح. السؤال الذي نطرحه هنا هو: لماذا لا يتم فتح مجالات النقاش بشكل أوسع وأشمل؟ ولماذا لا يتم إعادة تنظيم مكونات المجتمع المدني، خاصة وأن هذا الأخير برهن على مدى عقد من الزمن على أنه فاشل ولا يمتلك أي وجود فعلي في الشارع؟ صحيح أن التلفزيون فتح بعضا من "كواته" أمام بعض رموز المعارضة، ولكن لا يمكن اعتبار ذلك كافيا لإنتاج حوار حقيقي وعميق. مما لا شك فيه، أن الرئيس سيسعى إلى توسيع دائرة التشاور والحوار، ولكن الظرف الراهن المتميز بتوسع دائرة الاحتجاجات كل يوم وفي كل القطاعات، يستوجب الإسراع في القيام بعملية إصلاح جذري وشامل لقطع الطريق أمام أي جنوح نحو العنف من جهة، وحتى لا يبقى الطابور الخامس في الساحة للإجهاز على مشروع الإصلاح في المهد من جهة أخرى. الوقت الآن، لم يعد يسمح لأي كان بمحاولة كسب الوقت أو المراهنة على ملل الناس وسأمهم من الاحتجاجات، فهناك مؤشرات على أن التدخل الخارجي يمكن أن يحصل تحت أي حجة كانت، لهذا، لابد من وضع معالم مشروع وطني يلتف حوله كل الشعب الجزائري، حتى لا يترك أي فراغ يمكن أن تتسلل من خلاله القوى الكبرى. إننا لا نبالغ إذا ما قلنا بأن هناك تحديات خطيرة تواجه السلم الاجتماعي، ولابد من مواجهتها بكل شجاعة وقوة، ولأننا في عصر الإنترنت، فإن الخطر يتعاظم لأن نجاح أي تجربة في دولة ما قد يؤدي إلى محاولة لاستنساخها. لكل هذه الأسباب وغيرها، لابد من الإسراع في الاعلان عن إجراءات وخطوات وبرامج إصلاحية في العمق، لأن مستوى الشارع قد يتجاوز كل القرارات في حال تأخرها، وساعتها لا يفلح أي شيء، وقد رأينا كيف تعاملت الشعوب في مصر وتونس واليمن مع كل التنازلات التي قدمها قادتها، والتي لم يكن يحلم بها أي أحد، بحيث لم تتجاوب معها لأنها جاءت متأخرة، ولم تعد قادرة على امتصاص الغضب الجماهيري. في الرسالة التي وجهها بوتفليقة إلى الشعب قال بأن المخطط الخماسي 2010 - 2014 يعد جزءا من عملية الإصلاح التي ينوي تطبيقها، في الحقيقة هذا المخطط هو برنامج تنموي يعتمد على وفرة الموارد والإمكانيات، ويمكن أن يشكل قفزة نوعية في عملية التنمية، ولكن الضمانات الكفيلة بذلك، لا يمكن أن تتم في ظل الآليات الموجودة حاليا، والمتميزة باستمرار نفس المسؤولين عن الفساد الحاصل في مناصبهم لتسيير الملايير المخصصة لهذا البرنامج، ما يجعل عملية التغيير ضرورة ملحة للحد من ظاهرة الفساد ونهب المال العام. بعبارة أخرى، الإصلاحات المطلوبة يجب أن تكون في شكل منظومة شاملة وقطيعة مع كل الممارسات السابقة. هذه الفكرة لخصها الرئيس في قوله: "إن رفع حالة الطوارىء خطوة جديدة يخطوها الوطن في اتجاه إزالة كل الآثار الناجمة عن سنوات المحنة، وهي صفحة جديدة على صعيد المضي بالإصلاحات الشاملة التي لا تكتمل إلا إذا أخذت الإصلاحات السياسية نصيبها من الرعاية والاهتمام". كلام الرئيس عن الإصلاحات السياسية يعني بدون شك الحديث عن التعديل الدستوري وحرية الممارسة الحزبية والفصل بين السلطات وترقية الحريات بصفة عامة، وتفعيل العدالة، وأيضا ربما النظر في طبيعة النظام السياسي وتحديد ملامحه بشكل دقيق، كأن يتم الاختيار ما بين النظام الرئاسي والبرلماني أو غيره. صحيح أن رسالة رئيس الجمهورية ركّزت على التنمية كعنصر أساسي في عملية الاستقرار السياسي، ولكن حديثه عن الإصلاحات السياسية بهذا الشكل الواضح جدا، فيه إشارة صريحة إلى أن الأيام المقبلة ستشهد تغييرات قد تكون جذرية لإرساء قواعد دولة القانون التي يطالب بها الجزائريون. الرئيس أيضا تحدث عن استعداده لتعميق التعددية الحزبية والإعلامية، هذا الكلام يحمل معنى واحدا وهو ضرورة الاستجابة لرغبات المواطنين الراغبين في تكوين أحزاب جديدة، وأيضا رغبتهم في فتح القطاع السمعي البصري لاحتواء كل الآراء والأفكار والأذواق، الألوان السياسية والفكرية. الأنباء غير الرسمية تقول بأن مسودة التعديل الدستوري توجد على طاولة الرئيس، وهناك أيضا حديث عن تعديل حكومي جذري. الواقعية السياسية تفترض مثل هذه الإجراءات، لأنها تعد بديهية في أية عملية إصلاح حقيقي، ففيما يتعلق بالتعديل الدستوري لا مناص من ذلك لأنه يحتوي على العديد من الثغرات، كما أنه خضع لتعديل مس المادة المتعلقة بالعهدات الرئاسية، وهو الأمر الذي لم يعد مقبولا بالنظر إلى التطورات الحاصلة إقليميا ودوليا، والتي تسير كلها في اتجاه تكريس مبدأ التداول الحر على السلطة وفتح المجال أمام الكفاءات الوطنية. أيضا لابد من إعادة النظر في الصيغة القانونية التي تنظم العلاقات ما بين الجهازين التشريعي والتنفيذي، وأيضا صلاحيات الرئيس، وأمور قانونية أخرى. هذه الإصلاحات -في حال إقرارها- على أهميتها، لا ينبغي أن يتصور البعض بأنها سوف تشكل سقف المطالب الشعبية، لسبب بسيط وهو أن المواطن الجزائري اليوم بات يعرف بأن الرأي العام هو الذي سوف يحدد مستقبلا كل صغيرة وكبيرة، وقد رأينا كيف بات الشارع المصري والتونسي يخلع المسؤولين ويقترح آخرين بكل سيادة وحرية. الشارع الجزائري كغيره من فئات الرأي العام العربي يريد اصلاحا في العمق، بمعنى أنه يريد مؤسسات تعمل وفقا للقانون وممارسات قائمة على العدالة والمساواة بين كل أبناء الوطن، دون تمييز جهوي أو فئوي، ويريد أيضا الكثير من الحرية مع الالتزام بالقوانين والحدود التي يتفق حولها الجميع في عقد اجتماعي واضح ومحدد. باختصار، المواطن يريد إقامة دولة القانون التي لطالما حلم بها وضحى من أجلها. الآن في ظل التطورات التي يشهدها العالم، لم يبق هناك أي خيار أمام صناع القرار في بلادنا سوى الامتثال للإرادة الجماهيرية والعمل الجاد من أجل تمكين الشعب من القيام بدوره كمصدر لكل القرارات والقوانين، ولا مجال لأي نوع من أنواع المراوغة أو محاولة الالتفاف على حقوق الناس، لأن الشعب الذي تفهم كل المراحل السابقة بكل ما حملته من نجاحات وإخفاقات، صار من حقه اليوم أن ينعم بالحرية الحقة والديمقراطية الحقيقية، ويستفيد من ثروة بلاده بكل عدالة.