لم يكن أحد من عرب هذا الزمان ولا حتى من غربه يظن أن نبوءات سوداء البيت الأبيض يمكن أن تتحقق ولو بعد انصرافها عن إدارة دبلوماسية بلد لم يتحرّج كثيرون عن وصفه بإمبراطورية الشر، فقد أطلقت كونداليزا رايس مصطلحها المشهور »الفوضى الخلاقة«، وعملت كثيرا من أجل إنجازه دون جدوى، لأنه لم يكن ممكنا تحقيقه في وقت جنون إدارة بوش الراحلة، وكان على المخطط أن ينطلق مع إدارة جديدة، تحايلت على ضحايا المشروع، ومارست عليهم كثيرا من الدَّجل، حتى هيّأوا لها بأنفسهم البيئة الملائمة التي ساهم فيها من جهة، نظام الحكم الثوري، وأسرع بالمخطط من جهة ثانية، نظام الحكم الأميري والملكي، الذي كاد يُعمِّمه على كل الكيانات الجمهورية حينما ضربها زلزال شتاء الألفية الثالثة، الذي فرض الغرب تسميّته على العرب بالربيع العربي فراحوا يردِّدون التسمية سواء دروا أو لم يدروا أنهم يُقرّونه بذلك على ما حاول أن ينسبه إلى نفسه، من أنه هو مَن يصنع دائما ربيع الشعوب وقد بدأها بربيع براغ!. صحيح أن ما حدث قد فاجأ مخابر الاستشراف الغربية المكلفة بحماية مصالح الغرب الدائمة، قبل أن يفاجئ أنظمة الحكم الوطنية العربية، التي استكانت إلى الدفء المغشوش لكرسي الحكم، المحمي بآلاف المتاريس الوقائية من احتمال ثورة يأتي بها الشعب، لم تكن واردة لأيّ من الحكام حتى في أحلك كوابيس أحلامه، ولكن الصحيح أيضا، أن انتفاضات هذه الشعوب أو ثوراتها كما تحب أن تسمي انقلاباتها، قد كشفت عددا من حقائق المجتمع السياسي العربي، لعل أكثرها شدًّا للانتباه، أن النظام البوليسي المستبد، الذي كان يُنظَر إليه على أنه حصن منيع للردّة، تنبطح من خلفه العائلة الحاكمة وتُبطِح معها الشعب كله نظير استمرار بقائها، كان أكثر الأنظمة هشاشة وسقوطا، وربما أقلها فتكا بالثائرين على الوضع السائد، في حين كان النظام الممانع في الظاهر، المستمد شرعيته من الثورة الشعبية، أشدها بأسا وإجراما في حق شعبه، فعدُد قتلى نظامَيْ ابن علي ومبارك مثلا، لا يتعدى عُشُر مَن فتَك بهم نظام القذافي وحده. لقد أخرج الشارع العربي بعض البلاد العربية من سجن الحكم الاستبدادي التسلطي، وكان يمكن لأدوات استشعار المخاطر أن تقوم بوظيفتها، فيُلبي الحكم المطالب البسيطة للمحتجّين سلميا على وضعهم السياسي والاجتماعي وربما الإنساني المزري، غير أن غباء النظام جعله يُصِر على تقديم إجابة واحدة لكل الأسئلة المطروحة في الشارع، بعد أن عجزت المؤسسات الدستورية الصورية على تلبيتها، وتمثّلت الإجابة في القمع ولا شيء غيره، مما جعل شعاره الباطل- الذي راح يبرّر به قمعه وهو المؤامرة الخارجية- يصبح مسلكا وحيدا للشعب، ولعل ذلك ما دفع الليبيين إلى الاستنجاد بعدو الأمة الذي لبس عباءة الصديق المدافع عن حقوق الإنسان العربي، فلا يرى في حلف الأطلسي حرجا- كما لم يره المحتمون به- في شن أكثر من تسعة آلاف غارة على ليبيا، ويدك أكثر من ستة آلاف هدف حيوي بها، ليعيد المجتمع الليبي إلى ما قبل استقلال ليبيا أو أتعس، فيُدخِل الشعب في فوضى شاملة تعم المنطقة يظن أنه باستطاعته تأجيل ثوراته النائمة التي يبدو أن الشارع العربي أيقظها، حتى استأجر المحتجون على حالهم في الغرب من الشباب العربي شعارهم الخالد׃ الشعب يريد إسقاط النظام، وردّدوه من داخل حصن وول ستريت المالي المنيع، بعد كل الغبن الذي فتّت أحلام كثير من المواطنين الغربيين الذين اكتشفوا فجأة أن الرفاهية المُروَّج لها لعقود من الزمن تُخفي وراءها استبداد الرأسمالية الذي لا تحدّه حدود. يمكن للمتتبّع العادي لما يجري، أن يرصد غباءً مركّبا تُغطِّي سحبه الدكنة الحالة العربية، وهو مزيج من غباء يُعشِّش في كواليس الحكم يُميِّزه التسلط، وغباء يحكم المعارضة ويدفعها بقوة غلى ممارسة الخيانة الوطنية، وغباء يجتاح الدهماء وقد حوّلها إلى كمٍّ مُهمَل من الصُمِّ البُكْم العُمْي، الذين فقدوا بصائرهم قبل أن تضيع منهم أبصارهم، ويتجلى ذلك بالفرح في إدخال أدوات صراع جديدة في معركة القصر مع الشارع، هي القبيلة والدين ووسائل الإعلام، حيث أصبحت أدوات قتالية أساسية في نحت الذات وإضعافها أمام العدو الدائم المتربِّص، وإن استمر الوضع طويلا على ما هو عليه، سيتم تتفيه تلك الأدوات التي أثبتت نجاعتها في معركة الأمة خلال كل مراحلها، ومن ثم سيسقط ما بقي من سترة تُغطِّي عورة المجتمع العربي، الذي لا يرى الغرب الرسمي بلدانه سوى خزّان بترول أو غاز، من شأنه أن يُحرِّك عجلة اقتصاده، وموردا آمنا لضمان رفاه مجتمعه الاستهلاكي، الذي بدأت تتحرّك في اتجاهاته المختلفة، عواصف شكّلتها قلة قليلة فيه استولت على الثروة واحتكرت إعلان الحروب باسمه . إن الأمر الذي لا يجادل فيه اثنان، أن الدولة الوطنية قد فشلت أو تم إفشالها، وأن كل ما يجري الآن هو محاولة لإسقاطها، لأنها ترمز إلى هزيمة الاستعمار التاريخية، سواء من غير ما يقصد أبناؤها أو عن قصد كما يسعى إلى ذلك أعداؤها، ولذلك فإن العرب- كل العرب الثائرين والمحرِّضين والمتفرِّجين- هم في حاجة إلى ثورة صادقة تقوم بها نخبهم الحقيقية، لا تلك المزيَّفة التي ظلت لعقود تُزيِّن لهذا الحاكم أو ذاك سوء أفعاله، حتى تحولت تلك الدولة- التي هي نتاج نضالات طويلة لأجيال متعاقبة- إلى أداة استبداد، ومشتلة للفساد، وسجن لكل مَن يرغب في بنائها ولكن برأي مخالف، وإن لم تحدث بسرعة ما أسميه ثورة النخب، فإن جغرافية العرب ستدخل- لا قدّر الله- الفصل الثاني من كتاب سايكس بيكو المفتوح، وساعتها قد يُؤرِّخ مَن يأتي بعدنا لهذه الجغرافيا، بألفية سقوط الدولة الوطنية العربية...