بعد مرور سبعة وخمسين عاما على اندلاع أكبر ثورة شهدها القرن العشرين، لا يزال حزب جبهة التحرير الوطني، شاهدا على أحداث تلك المرحلة، وعنصرا بارزا في الحفاظ على الذاكرة الجماعية للشعب الجزائري والدفاع عن ثوابت ذلك الإنجاز العظيم، الذي يتعرض باستمرار لمحاولات تقزيمه أو تحريف عقيدته، من خلال حملات التشويه تارة والتشكيك تارة أخرى. انطلاقا من هذا الإرث العظيم الذي اكتسبه حزب جبهة التحرير الوطني، من كفاح الشعب الجزائري الطويل والقاسي، فإن مسؤولية صون الأمانة والدفاع عن رسالة الشهداء تقع عليه أكثر من غيره، دون أن يعني ذلك احتكار قيم الأمة وتاريخها. صحيح أن جبهة التحرير الوطني هي اليوم حزب كغيره من الأحزاب، مؤسسة تسعى للوصول إلى السلطة والحفاظ عليها، عبر الطرق القانونية واحترام اللعبة السياسية بكل قواعدها، ولكن هناك قناعة لدى الجميع بأن هذا الحزب اختاره التاريخ لأن يكون له في حياة الجزائر موقفا خاصا، أبعد من مسألة السلطة وأسمى من لعبة السياسة. ولعل هذا ما يفسر الانتقادات التي يتعرض لها والمؤامرات التي تحاك ضده أكثر من غيره من الأحزاب، حتى أننا نكاد نقول أنه ليس من حق حزب جبهة التحرير الوطني أن يخطئ. المهمة ليست سهلة البتة، فهذا الحزب مطالب بإنجاز مهام تكاد تكون مستحيلة في ظل التطورات الراهنة والرهانات والحسابات التي تحاصره من كل جانب، ومنذ الاستقلال، فهو مطالب بالحفاظ على روح نوفمبر في كل خياراته وقراراته، والوفاء لعهد الشهداء، وإنجاز مهام الثورة وأهدافها كما جاء في بيان أول نوفمبر، وصون وحدة الشعب بالرغم من تعدد اتجاهاته، ومسايرة حقائق الميدان دون التراجع عن الثوابت الوطنية التي صارت محل تشكيك من طرف نفس القوى التي حاولت عرقلة الاستقلال الوطني في السابق، وهي تحاول اليوم الانقضاض على حزب جبهة التحرير الوطني وإدخاله المتاحف، وإطلاق رصاصة الرحمة عليه حتى تخرج الجزائر نهائيا من دائرة قيم الثورة على الاستعمار الفرنسي والانسلاخ من الانتماء الروحي والحضاري الذي شكل الوعاء الفكري لنضال الشعب الجزائري ضد التغريب والتمسيخ. حزب جبهة التحرير الوطني مطالب أيضا - على الأقل من الناحية المعنوية - أن يكون مثاليا في قياداته وقواعده، تماما مثلما كانت جبهة التحرير الوطني خلال الثورة مثالية في قادتها وقواعدها، لدرجة أن رجالها بلغوا مصاف الأنبياء، كما شهد بذلك المراقبون والصحفيون الأجانب الذين عاشروا المجاهدين ووقفوا على مدى دماثة أخلاقهم وتواضعهم وعزوفهم عن ملذات الحياة وإقبالهم على الشهادة والجهاد بكل إيمان، وانتشار قيم الإيثار في صفوفهم، بحيث كان حاملها يموت من الجوع ولا يأخذ فلسا من أموال الثورة. من أجل كل هذا يرتفع سقف الأماني عندما يتعلق الأمر بالأفلان وفي نفس الوقت تزداد القساوة عليه إن هو أخفق في بعض مهامه، لهذا فإن البعض لا يفهم كيف يقبل الحزب بعض التوازنات التي هو في غنى عنها ويستطيع الحصول على أفضل منها، بالنظر إلى تاريخه وقوته وخبرته وتجاربه وموقعه داخل الخارطة السياسية والحزبية• البعض الآخر لا يفهم كيف تتعرض اللغة العربية لكل هذا الدوس بالأقدام وكل هذه الانتهاكات- خاصة في الأعوام الأخيرة - بحيث تحولت اللغة الفرنسية إلى لغة رسمية للجمهورية الجزائرية التي حررتها دماء أنقى وأعظم وأشرف الرجال، ويكفي أن نستمع لأصغر مسؤول لنقف على حجم الكارثة، وننظر إلى أصغر شارع أو محل لندرك فداحة المؤامرة على لغة الشعب التي كانت سلاحا فتاكا في يد جبهة التحرير الوطني لفرض احترام العالم كله لشخصية وهوية الجزائر. صحيح أن كل البرامج والخطب التي صدرت عن حزب جبهة التحرير الوطني، تضمنت تأكيدا على ضرورة استعادة اللغة العربية مكانتها الطبيعية رسميا وجماهيريا، ولكن هذا لا يكفي لأنه وكما قلنا سابقا، ليس من حق حزب جبهة التحرير الوطني، أن يمل أو يكل عن مهمة الدفاع عن نفس قيم ثورة نوفمبر، لأنه مكلف بنفس الدور الذي يكلف به منفذ الوصية في القانون. إن عظمة الرهانات على حزب جبهة التحرير الوطني ليست نابعة من فكر أفلاطوني أو طوباوي أو أحلام اليقظة، بل من واقع ملموس ومدروس، فالجبهة التي استطاعت أن تقود واحدة من أعظم ثورات العالم الحديث إن لم تكن أعظمها، قادرة على قيادة الشعب نحو إنجاز أعظم تجربة سياسية، لأنها تملك - دون غيرها - سجلا من الممارسة العبقرية التي يمكنها الاعتماد عليه، وتكييف خطوطه مع الواقع الراهن، مع فارق أنها اليوم تملك كل مقومات النجاح عكس مرحلة الثورة التي لم تكن تملك فيها سوى العزيمة والإيمان والإيثار. لقد انطلقت الثورة الجزائرية كما قال الشهيد العربي بن مهيدي عشية الإعلان عنها "نعلن الثورة بلا مال ولا سلاح"، وقد كان على جبهة التحرير الوطني أن تقنع الشعب الجزائري بقدرتها على إنجاح الثورة، والرأي العام العالمي بعدالة قضيتها• وبالرغم من الوسائل شبه المنعدمة، تمكنت الجبهة من تحديد معالم الطريق نحو الحرية كما قال المناضل سعد دحلب: »كان على الفرنسيين كي يثبتوا أننا فرنسيون مثلهم أن يتسلحوا بعلوم الدنيا كلها، بينما نحن لم نكن بحاجة كي نفند مزاعمهم إلى أكثر من التذكير بأننا جزائريون بكل بساطة«. الإيمان بعدالة القضية الجزائرية وجوهر نضالها كان التمسك بالهوية الوطنية، هذه النقطة شكلت أبرز حلقة في استراتيجية جبهة التحرير الوطني، لذا نجدها حاضرة بقوة بعد الاستقلال في كل ديباجات وفصول البرامج الانتخابية والخطب السياسية لحزب جبهة التحرير الوطني ونصوصها ومواثيقها. إن التزام تركيبة جبهة التحرير الوطني بالقيم والأخلاق النبيلة، واختيار أصدق وأنقى الرجال، جعلها تضمن وقوف الشعب الجزائري في مجمله معها وتلاحمه مع طلائعها، ما فوت الفرصة على الاستعمار لتقسيم الشعب واختراق الجبهة من الداخل رغم المحاولات المتكررة مثل سعيه إلى إنشاء قوة ثالثة محلية، تعمل على تزيين صورة الاستعمار لدى الشعب الجزائري، ويعترف شارل ديغول نفسه بقوة وصلابة وتماسك جبهة التحرير الوطني، فيقول في رسالة كتبها يوم 26 ديسمبر 1959: رغم كل الإمكانيات والوسائل المسخرة للقضاء على الثورة عجزنا عن استمالة المسلمين في الجزائر وفي فرنسا والخارج. لقد كانت فرنسا آنذاك تنفق سنويا ألف مليار فرنك قديم مقابل ثلاثة ملايير فرنك قديم تنفقها الجبهة، أي ما يعادل 3% ومع ذلك استطاعت الجبهة عبر دبلوماسييها ومجاهديها وإعلامها أن تصل إلى كل بقاع العالم، وتقنعه بعدالة قضية الشعب الذي تمثله. إن المقصود من استعراض هذا الجانب التاريخي المشرف من مسيرة جبهة التحرير الوطني هو الإشارة إلى أن حزب جبهة التحرير الوطني يستطيع بفضل الإمكانيات المتاحة في الجزائر، خاصة حاليا، أن يعطي قفزة نوعية ويضيف إليها من خلال العمل على عودة ذلك التلاحم بين الشعب والقيادة، من خلال الاستثمار في ذلك الموروث الفكري لجبهة التحرير الوطني الذي يعد بكل موضوعية وجدارة برنامجا متكاملا ومستفيضا، يقدم الحلول لكل المشاكل ويحدد الخطوات الواجب اتباعها لتحقيق المكاسب بأقل التكاليف. مسؤولية الإصلاح يقول الكاتب محمد عباس في كتابه »نصر بلا ثمن«: »إن حركة أول نوفمبر وبالنظر إلى كل الحقائق هي ثورة بالتراث والمذهب والوعي بالذات، كما هي ثورة بالهدف والوسيلة والطفرة الاجتماعية المترتبة عليها«. ويقول الصحفي والكاتب الفرنسي روبير بارا »أية سلطة هذه التي يمكن أن تخنق إرادة الشعب الجزائري الجامحة في قيام نظام من المساواة والعدالة الاجتماعية«. هاتان الشهادتان تقيمان بجلاء عمق الفكر الثوري وحقيقة الإنجاز الذي حققه الشعب وجبهة التحرير الوطني، بفضل علاقات التلاحم والوفاء والصدق وكفاءة الرجال، هذا هو المطلوب بالضبط من حزب جبهة التحرير الوطني في المراحل المقبلة، لن نتكلم هنا عن دور حزب جبهة التحرير الوطني في بناء الدولة الجزائرية الحديثة وإقامة المؤسسات التي كان لها أكبر دور في إنقاذ الجزائر من خطر الانقسام غداة الاستقلال، وخطر الإرهاب في التسعينيات، ولن نتكلم عن دوره في تعميق الفكر التحرري في العالم عندما جعل من الجزائر قبلة للثوار، ومركزا لدعم نضالات الشعوب ضد كل أشكال الاستعمار والطغيان والاستبداد. إن ما يهمنا اليوم هو وضع تصور للدور الذي ينبغي أن يكون عليه حزب جبهة التحرير الوطني في ضوء التطورات والرهانات التي تشهدها الجزائر والمحيط العربي والعالمي. بغض النظر عن موضوع »الثورات العربية« ومدى صحتها وقدرتها على تحقيق الانتقال نحو الديمقراطية بعد عهود من الاستبداد والتخلف، فإن التحول قادم لا محالة في كل الدول العربية، بما في ذلك الجزائر، وليس هناك من يستطيع إقناع الشارع الجزائري بأننا في حل من هذا التطور أو أننا لسنا كالآخرين. ولأننا سوف نصل حتما إلى مرحلة الممارسة الديمقراطية الحقة، القائمة على احترام الإرادة الجماهيرية، فإن المهمة ستصبح بالنسبة لكل الأحزاب بما في ذلك حزب جبهة التحرير الوطني، هي في كيفية إقناع غالبية الشعب بجدوى الانضمام إلى البرنامج المختار، سواء خلال الاستحقاقات المقبلة أو ذلك الخاص بالمتابعة اليومية والنشاط العادي والجواري للحزب• أمام حزب جبهة التحرير الوطني مهمتان عظيمتان: المهمة الأولى، هي تلك التي تتعلق بكيفية ضمان الفوز والاستمرار في الريادة، أما المهمة الثانية فتتلخص في ضرورة إعادة خلق ذلك »الإنسان الجزائري الجديد« . المهمة الأولى لن تتحقق إلا من خلال العناصر السالفة الذكر، والمتمثلة في حسن اختيار الرجال من حيث الكفاءة والخلق ونبذ بعض الممارسات المتخلفة، مثل الجهوية والمحاباة والمال السياسي والولاء للأشخاص على حساب المبادئ، فهذه الممارسات التي - للمفارقة - لم تكن موجودة في بداية الثورة بفضل حسم وحزم جبهة التحرير، بعبارة أخرى لابد من العودة إلى معيار الكفاءة والأخلاق عند اختيار الرجال الذين يمثلون حزب جبهة التحرير الوطني أو يتكلمون باسمه. تؤكد قيادة حزب جبهة التحرير الوطني باستمرار بأنها تقود عملية الإصلاح في الجزائر، وقد تقدمت فعلا بالعديد من المقترحات القانونية والإجرائية والسياسية لتعميق التجربة الديمقراطية، هذا لا يمكن أن تكون له أية مصداقية إلا إذا اقترن بخطوات إصلاحية في عمق الحزب والاستعداد للاستحقاقات المقبلة عبر كتائب من المناضلين الشباب الشرفاء والأكفاء والمتخلقين، لأن هذا هو السبيل الوحيد للعودة إلى روح نوفمبر التي كانت وراء كل الإنجازات العظيمة للجزائر. كما أن هذا هو السبيل الوحيد لوضع حد لكل المحاولات الرامية إلى تقسيم الأفلان وسحب البساط من تحته أو وضعه في المتاحف• هذا لن يتحقق بدوره إلا من خلال الوفاء لمبادئ نوفمبر وعدم التنازل عن قيم الشعب ومثله العليا والدفاع عنها بكل استماتة• صحيح أن السياسة تفترض قواعد قد لا تكون كلها بريئة، بل أن الانتهازية كتصرف يعني اقتناص الفرص لتحصين المكاسب، تعد من مبادئ الفطنة والدهاء السياسي، إلا أن قدسية رسالة نوفمبر تفرض على حزب جبهة التحرير الوطني واجب الحرص على الأمانة، أمانة الشهداء، نوعا من المثالية في السلوكيات والرقي في الخيارات ونبذ الأنانيات من أجل الأهداف السامية التي حملتها ثورة نوفمبر• لقد وقف حزب جبهة التحرير الوطني دوما إلى جانب المشاريع الإنسانية الكبرى، وساند دوما كفاح الشعوب من أجل حريتها وعزتها وكرامتها، ولم يقف يوما مع مستبد أو يؤازر نظاما فاسدا، لهذا ومهما كانت الحسابات، خاصة الذاتية منها، فإن واجب الوفاء لقيم ثورة نوفمبر يفرض عليه العمل من أجل إنجاح كل المساعي التي تؤدي إلى نصرة الحق والعدل والحرية، وتمكين الشعوب من حقها في تقرير المصير، سواء عندما يتعلق الأمر بالشعوب المستعمرة والمكافحة ضد الوجود الأجنبي، أو تلك التي تناضل من أجل بناء الديمقراطية والعدالة والتنمية ومحاربة قوى الفساد والخيانة والتخلف، خاصة في عالمنا العربي المنكوب• لقد خلق حزب جبهة التحرير الوطني لكي يكون رائدا لا تابعا، وقائدا لا مقودا، ممدوحا لا مذموما، كبيرا لا صغيرا، لذا فمن حق كل من يحمل ذرة وفاء وإيمان لثورة نوفمبر وقيمها، أن يحلم بأن يرى الحزب قوة سياسية ذات رسالة أسطورية، تماما مثلما كانت جبهة التحرير الوطني مثالية وأسطورية.