الدرس الذي علمتنا إياه التقلبات السياسية خلال النصف الثاني من القرن العشرين قد لا نتعلمه في أرقى جامعات الدنيا كلها. وأعني بهذا الدرس أنه لا ينبغي على الشعوب أبدا أن تسير وراء الأقوياء الذين يسيرون دفة هذا العالم حتى وإن هي أكرهت على ذلك. تابعت لحظة بلحظة جحافل الغزو الأمريكي وهي تحط رحالها ببغداد عام 2003، وأوليت أذنا صاغية لكل ما قيل أيامذاك في الإذاعات وفي التلفزات العالمية، وقرأت المئات من التعليقات في الصحف وفي المجلات حول هذا الموضوع بالذات. وما زلت أذكر وقائع لقاء تلفزيوني جمع عددا من المعلقين السياسيين الفرنسيين وبعض الضيوف من المثقفين العرب. كان بينهم سينمائي عراقي يعيش في المغترب الفرنسي، وقد ذهبت به الظنون إلى أن الخلاص جاء مع رجالات المارينز والطائرات الخاطفة في أجواء بغداد وفي البصرة وأرباضها. راح يتحدث بلغة فرنسية مضطربة لا تكاد تؤدي ما يريد قوله، ويمجد الأمريكيين ودباباتهم معتقدا اعتقادا جازما أنه سيعود بعد أيام قليلة إلى أرضه ويعيش في جو من الأخوة والهناء. لقد ظن المسكين أن القضاء على صدام حسين وأعوانه كفيل بأن يعيد بغداد إلى ما كانت عليه أيام الدولة العباسية، ولعله لم يقرأ ما فعله هولاكو ببغداد حين حل بها مع جيشه الهمجي العرمرم، بل ولعله لم يعقد المقارنة بين الجيشين الأمريكي والتتري. وليس هناك شك في أنه قد عاد إلى جادة الصواب بعد أن رأى أفاعيل الاستعمار الأمريكي في أرض العراق، وأفاعيل الخونة ومن يدورون في فلكهم. الحكاية كلها هي أن الشعوب التي تنتظر الخلاص من شعوب أخرى إنما تقع في بؤر لا قرار لها. وها نحن اليوم بعد أكثر من خمس سنوات نرى ونسمع ما حدث ويحدث في أرض العراق وفي جسد الإنسان العراقي. عندما زحف الصليبيون على أرض المشرق العربي، توقفوا بعض الوقت في القسطنطينية وفعلوا فيها ما لا يتصوره العقل السليم، وذلك بعد أن ظن أهل تلك المدينة أن خلاص الشرق المسيحي كله إنما سيتم على أيدي تلك الآلاف المؤلفة من المهووسين المتوحشين القادمين من أعماق أوربا المظلمة. والذين صفقوا وهللوا للغزاة الأمريكيين عام 2003 وقبل ذلك، من بعض العراقيين ومن بعض العرب، إنما صفقوا للإستعمار من حيث يشعرون أو لا يشعرون. لعل ذلك السينمائي الذي تفرجت عليه في التلفزيون الفرنسي يندب حظه اليوم. ولا شك في أنه يكون قد أفاق بعد رقاده السياسي الغبي الطويل مدركا أن خلاص بلده لا يتحقق إلا على أيدي أبنائه مجتمعين. بل إن شعوب العالم الثالث التي وجدت نفسها مكرهة على الميل إلى هذا المعسكر أو ذاك، قد أفاقت اليوم على وقع الهزيمة وهولها في الوقت نفسه، وأدركت الحقيقة الساطعة التالية، وهي أن الاستعمار قد عاد بأقوى مما كان عليه خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ومن ثم، فإن عليها أن تشمر عن سواعدها من جديد وألا تعتمد على أحد في عملية التحرير اللهم إلا على قدراتها الذاتية أولا وأخيرا.