حتى في الثقافة الإسلامية، فإننا نحتاج على الأقل لأربعين سنة لكي نبلغ سن النضج والرشد، ولم يبلغ عمر التعددية في الجزائر سوى نصف هذه العمر. اليوم تكون عشرون سنة بالتمام والكمال قد مرت من عمر التعددية السياسية في البلاد .. عشرون سنة تحقق فيها الكثير، ومازال الطريق طويلا لإرساء دعائم ديمقراطية تعددية فعلية وفعالة .. وهي بناء قد بدأ بحجرة يوم 23 فبراير 1989 ، والصرح الديمقراطي ينبغي أن يبنيه الجميع، وكل من ينتقد أو يقلل من المكاسب التي تحققت ، فما عليه سوى أن يأتي ب " حجرته " للمساهمة بدوره في عملية البناء. تكفي الإشارة إلى أن الجزائر كانت أحادية الحزب والنظام، ورغم ما يقال أن الحقبة كانت تشهد تعددية في الفكر وحرية في النقاش وجرأة في الطرح، فهذا لا يمنع من أنها كانت داخل " حزب واحد وحيد " ، وكان الرأي الآخر والمخالف لا يصل إلى الرأي العام، بل يبقى محصورا في المؤسسات. اليوم تحصي الجزائر عشرات الأحزاب، ويمكن لكل مواطن أن ينضوي تحت أي لون يشاء ، حتى لو كانت تلك الأحزاب ما تزال بحاجة لمزيد من الوقت لتكون أحزابا بأتم معنى الكلمة. حرية الرأي والتعبير كانت غائبة تماما، حتى أن المواطنين كانوا يلجأون للتنكيت واستخدام الألغاز للتعبير عن الواقع، للتدليل على " أزمة حقيقية " في " كبح الحريات " ، أو " خوف قائم من التعبير عن الرأي ". الساحة الإعلامية لم تكن تحصي سوى أربعة صحف ، وأصبحت ستة أواخر الثمانينيات. وكان الأداء الإعلامي بصفة عامة مكبوحا بالرقابة ، سواء أكانت رقابة رسمية أو ذاتية. عندما وقع زلزال الأصنام في عام 1980 ، أعلنت عنه وكالة الأنباء الفرنسية، فإعلامنا كان يخاف من نشر خبر كهذا، وعندما توفي الرئيس الراحل هواري بومدين، فإن وكالة تاس السوفياتية أنذاك هي التي كانت سباقة لنشر الخبر، ووسائل إعلامنا نقلت الخبر عنهما بعد ذلك. الآن ورغم كل النقائص في التعددية السياسية، وكل المآخذ على التعددية الإعلامية، وكل التحفظات بخصوص التعددية النقابية .. فإن هناك هامشا فعليا في ممارسة الحرية رغم عدم رضا الجزائريين عن كل ذلك. لكن عدم الرضا، لا يعني أن الهامش غير موجود، فالدول العربية وكثيرا من الدول غير العربية تتحدث عن هامش حقيقي في ممارسة السياسة وممارسة الصحافة .. لكننا كجزائريين غير راضين، بسبب طبيعة نشأتنا الإجتماعية والسياسية، وطبيعة ثورتنا المجيدة، لقد تشبعنا بفكر التحرر، لذلك لم نعد نرضى عن أي هامش، لا نرضى بوجود أي حدود لا حمراء ولا خضراء. ومن جهة أخرى يجب أن نقر أن المجالات التي لم تقتحمها التعددية، أو النقائص التي لم يتم سدها، فإن مسؤوليتها مشتركة بين النظام والمجتمع، فالحرية إن كانت غائبة يجب أن تؤخذ بالنضال المستمر والدائم. لكن دعنا نكون منطقيين .. إن عمر التعددية في الجزائر 20 سنة بالضبط، فهل من الممكن أن نصل إلى مستوى أمريكا حيث تجاوز عمر الديمقراطية فيها 200 سنة ؟ أو فرنسا التي تجاوزت فيها مبادئ حقوق الإنسان التي جاءت بها الثورة الفرنسية قرنين أيضا ؟ إن الإنسان، لو كان عمره 20 سنة، لما زال بحاجة لرعاية أمه وأبيه .. وهو لم يصل بعد إلى سن التصويت الحقيقي في الإنتخابات – بمنطق المعتزلة – و20 سنة لا تساوى سوى 20 ثانية في حياة الأمم والشعوب .. حتى في الثقافة الإسلامية، فإننا نحتاج على الأقل لأربعين سنة لكي نبلغ سن النضج والرشد. لذلك لا نملك سوى أن نقيم التجربة بالإيجابية رغم النقائص التي تحتاج إلى نضال متواصل لافتكاكها وتحقيقها.