مرت عشرون سنة على دستور 23 فبراير ,1989 الذي كرس التعددية الحزبية واضعا نهاية لعهد الأحادية، وكانت لي مع الذكرى وقفة أكاديمية إلى جانب لاعبين أساسيين في تجربة التحول الديمقراطي، رئيس حركة مجتمع السلم، أبو جرة سلطاني، والأمين العام لجبهة التحرير الوطني، عبد العزيز بلخادم، في الندوة التي احتضنها مركز الشعب للدراسات الإستراتيجية، وتكمن أهمية الندوة في أن رئيس الحكومة السابق كان من بين أعضاء الفريق المكلف بصياغة دستور الإصلاحات في الوقت الذي كان التيار الإسلامي في المعارضة غير مستعد للعمل التعددي والعلني بينما النقاش داخل سرايا النظام لم يحسم قضية التعددية بعد، هل نطبق تعددية على طريقة أنور السادات في مصر الذي سمح لحزب يميني وحزب من تيار اليسار وحزب الوسط الذي ترأسه السادات ذاته، وهي الفكرة التي طرحها البعض داخل حزب جبهة التحرير الوطني انطلاقا من المنابر المتعددة التي تشكلت معالمها داخل الحزب، في الوقت الذي لم يكن الكثيرون يتكهنون بموجة الإسلاميين، وتحضرني هنا تلك الدراسة التي قدمها بعض الأكاديميين للسلطة حول مستقبل التشريعيات لسنة ,1991 واضعين مجموعة من السيناريوهات أدناها لا تخرج عن برلمان فسيفسائي، وهكذا لم يكن يتوقع الكثير من داخل سرايا النظام ذاته بأن الفيس سوف يحسم اللعبة ويغلق التجربة الديمقراطية في جولتها الأولى. بعد عشرين سنة من التجربة الديمقراطية، حاول رئيس حركة مجتمع السلم أن يقيم التحول الديمقراطي في الجزائر انطلاقا من تجربته الحزبية التي انتقلت من المعارضة إلى المشاركة، ولخصها فيما سماه بالإخفاقات العشر، من تعددية محصورة إلى تعددية غامضة التي صاحبتها غياب الاحترافية مع غياب البدائل الناضجة سياسيا التي كرستها ديكتاتوريات الزعامات التاريخية مما أدى إلى الاكتفاء بالنضال المكتبي مع اتساع الهوة بين الخطاب الحزبي واهتمامات المواطنين أو ما سماه رئيس حمس بالخطاب الأرستقراطي، مع فشل النخب السياسية الشابة في صناعة نموذج للتغيير أدى إلى يأس الشعب من وعود الديمقراطيين وأحلام الإسلاميين ومن اجترار التيار الوطني، وهذه الإخفاقات العشرة جعلت الأمين العام للأفلان يتحفظ على ثمانية منها، وذلك من قناعات سياسية وحزبية أن جبهة التحرير كانت ولا تزال رقما حاسما في اللعبة الديمقراطية. واعتقد أن تجربة التحول الديمقراطي في الجزائر تحتاج إلى مقاييس كما قدمت في ورقة المداخلة، هذه المقاييس تنطلق من تحديد مفهوم التحول الديمقراطي الذي أصبح له مقاييسه الكمية والكيفية، بحيث يبدأ التحول الديمقراطي بالمرحلة الانتقالية التي تتميز بأنها من أصعب المراحل تعقيدا يصاحبها الكثير من العنف بسبب الانتقال من نظام إلى آخر، وهي المرحلة التي تسميها الأدبيات الإعلامية في الجزائر بالعشرية الحمراء، التي بدأت مع وقف المسار الانتخابي، ولا تزال رواسبها لم تحسم بعد. ومن أفضل مراحل التحول الديمقراطي أن يصل المجتمع بتجربته إلى مرحلة التوازن الديمقراطي حيث استقرار المؤسسات الانتخابية والتمثيل الشرعي الذي يمنحه حق التداول على السلطة بفضل المشاركة السياسية الواسعة للمواطنين، وعليه نتساءل: هل الجزائر تعيش التحول الديمقراطي في مرحلته الانتقالية أم وصل إلى نقطة التوازن الديمقراطي؟ الواقع، أن التجربة الديمقراطية في الجزائر مرت بمرحلتين أساسيتين في انتظار المحطة القادمة، المرحلة الأولى التي أطلقت عليها في ورقة المداخلة بمرحلة الفوضى الديمقراطية، من أهم مميزاتها التركيز على الدين، الهوية والتاريخ، وهي المسائل التي تم من خلالها تعبئة الشارع لمواجهة رواسب النظام القديم، الذي لم يجد أمامه إلا اللعبة الديمقراطية كخيار لتجاوز الحالات الأزموية، بسبب أزمات متداخلة من اقتصادية إلى سياسية نتيجة تصادم القوى داخل سرايا النظام، وهو ما أدى إلى نتائج كارثية في المرحلة الانتقالية حصيلتها خراب العمران وذبح الوطن كما عنون حسنين هيكل في إحدى مقالاته اليابانية حول تجربة الديمقراطية في مرحلتها الأولى في الجزائر. أما المرحلة الثانية فهي ما أسميها بمرحلة الضبط الديمقراطي، أهم مميزاتها التحالف الرئاسي الثلاثي بين جبهة التحرير والتجمع الوطني الديمقراطي وحركة مجتمع السلم، وهو تحالف قام على شرعية دعم الرئيس بوتفليقة انطلاقا من قناعات تعطي الأولوية لبناء المصالحة الوطنية للخروج من المأساة الوطنية مع دعم برنامج النمو الاقتصادي، واستطاعت قوى التحالف أن تضبط العملية السياسية بغلق اللعبة أمام باقي التيارات السياسية المعارضة، مما أدى إلى إضعافها وتغيبها عن الساحة السياسية بعدما وجدت نفسها تغرد خارج السرب، وهو ما جعل أحزاب مثل جبهة القوى الاشتراكية أو التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية يرفض كل منهما المشاركة في الانتخابات الرئاسية، والتساؤل الذي يطرح: ماذا بعد الرئاسيات ؟ أو إلى أين يتجه التحول الديمقراطي في الجزائر؟ نعود إلى مقاييس التحول الديمقراطي التي تشترط في الوصول إلى نقطة التوازن الداخلي أن نبني مؤسسات مستقرة بدعامة شرعية الناخب، والقضية المطروحة هنا، أن الناخب الجزائري في الانتخابات المحلية والتشريعية السابقة قدم مؤشرات سلبية تدق ناقوس الخطر فيما يتعلق بمستقبل المشاركة السياسية، فنسبة المشاركة التي لم تتعد 35 بالمائة في الانتخابات تدل على عجز الحركية السياسية على دفع ما سميته بالناخب المستهلك للذهاب للسوق الانتخابية، لأن التاجر السياسي لم يعد يملك بضاعة ذات جودة تغري المستهلك، فبعد تآكل الوسائل التعبوية التقليدية المتمثلة في الدين، اللغة والهوية والتاريخ، لم يعد ممكنا تجاوز أزمة المشاركة السياسية إلا عبر الشرعية الوحيدة الجذابة والمغرية والمتمثلة في شرعية الأداء الاقتصادي والاجتماعي. وأخطر مرحلة في التحول الديمقراطي في الجزائر استمرار الاعتماد على الريع النفطي، وفي حالة ما إذا طال أمد الأزمة المالية العالمية وانعكاساتها المباشرة على تراجع أسعار المحروقات في الثلاث سنوات القادمة، فإننا يمكن أن نتصور سيناريو كارثي أكثر تأثيرا من سيناريو سنة ,1986 عندما اشتدت الأزمة الاقتصادية العالمية وتراجعت مداخيل النفط مما أدى بصانعي القرار في الجزائر إلى تصدير الديمقراطية للشارع، والمشكلة هنا أننا لم نعد نملك خيارا ديمقراطيا آخر يمكن استنساخه كما حدث بعد أحداث 5 أكتوبر ,1988 فالتحدي المطروح بالنسبة للتحول الديمقراطي في نقطة التوازن: كيف نكسب رهان الأداء الاجتماعي والاقتصادي بعيدا عن مداخيل النفط الوهمية؟ فالكل يتحدث عن ما بعد الحقبة النفطية، لكن ما ذا أعددنا لها ؟ والإجابة عن السؤال هو الحل نحو الاستقرار السياسي والاجتماعي.