تحولت منطقة الشريعة بولاية البليدة إلى أكثر من وجهة سياحية بعدما ظلت خلال سنوات العشرية السوداء يدخل اسمها الرعب والفزع في النفوس بسبب ما تسبب فيه الإرهاب من ضحايا وخراب. وكان يكفى إعادة تشغيل المصعد الهوائي " التليفريك " لتسترجع الشريعة كل الجمال والرونق الذي حباها الله به ومكانتها الحقيقية . كان عداد السيارة قد ارتفع بقرابة ال 50 كلم منذ انطلاقنا من وسط العاصمة عندما وصلنا إلى مدينة الشريعة طبعا بعد قطع مسافة طويلة من المنعرجات، زادت المكان جمالا يخيل للزائر أنها مرسومة بريشة فنان من خريجي مدرسة الفنون الجميلة. مازالت المنطقة عذراء رغم وجود مظاهر عن بداية زحف " البيطون إليها "، من خلال أشغال ترميم هنا وهناك لبعض الشاليهات أو لأعمال بناء تقوم بها البلدية في سياق تنفيذها لبعض مشاريع التنمية . ولا يترك انتشار المواطنين والزوار في مختلف أطراف الغابة أي تردد في النفوس على أن هاجس اللاأمن لم يعد سوى حكايات من الماضي بعدما أخذت وحدات الجيش الوطني الشعبي سيطرتها على كافة المداخل والمخارج في إحدى أكبر غابات أشجار " الأرز " في الجزائر ، والتي تقدر مساحتها أضعاف مما هو موجود في لبنان مما يؤهل منطقة الشريعة بامتياز أن تستحق لقب مدينة الأرز ولا تنازعها في ذلك أي مدينة عربية أو متوسطية . المصعد الهوائي يعانق الضباب عادت الحركة بشكل ملفت للانتباه للمواطنين خصوصا أيام عطلة نهاية الأسبوع من خلال طوابير طويلة للسيارات حتى قبل تشغيل محطة "التليفريك"،غير أن إعادة إصلاح المصعد الهوائي بواسطة عربات زرقاء وصفراء اللون قد فتح المجال واسعا أمام تطور السياحة الشعبية في هذه المنطقة ، خاصة وأن تسعيرة تذكرة الركوب المحددة ما بين 30 و50 دج تعد في متناول الجميع ، كما أن التنقل عبر المصعد الهوائي يمكن الزائر من الاطلاع ورؤية لوحات من رسم الخالق تعد آية في الجمال، كيف لا وأنت تشاهد الضباب يحتضن مدينة الورود وبكثافة يخيل إليك أنك تعبر أجواء لندن وليس بلدية لا تبعد عن الجزائر العاصمة سوى بأقل من 50 كلم . ويحملك الحلم بعيدا وأنت تنظر إلى مدينة الورود من السماء قبل أن تصحو وتعود إلى الواقع من خلال رؤية بيوت من القرميد منتشرة هنا وهناك تحيط بها أشجار "الجوز " تمثل إحدى المنتجات الفلاحية التي تشتهر بها منطقة الشريعة .وعلى طول المسافة التي تقطعها عربات "التليفريك" قبل الوصول إلى منطقة التزحلق الكبرى، تضطر ذاكرة الزائر إلى تخزين المئات من اللوحات والصور التي لم تسبق لك رؤيتها لا في الأفلام ولا في الأحلام ،قبل أن يستفزك منظر صور بالأبيض والأسود لبقايا أثار الحريق الكبير الذي أتى على جزء من أشجار الأرز والبلوط في صائفة 2007 . ومن دون شك تشد انتباهك بعض العربات المعلقة في السماء دون أن تتحرك ، وهي بقايا أطلال تحكي للناظرين كم كان الحقد الإرهابي عنيفا ومقيتا، وهو وجه لا يختلف عما تركه الاستعمار الفرنسي بالمنطقة ، حيث تتزين الساحة المركزية بوسط المدينة بنصب تذكاري نقشت على إحدى لوحاته قائمة بها قرابة 200 شهيد سقطوا في ميدان الشرف في الفترة الممتدة ما بين 56 و60 ومن بينهم شهداء من عائلات واحدة على غرار عائلة مكركب .هذه القائمة من الشهداء توحي أن المنطقة مثلما فشلت فرنسا الاستعمارية بالأمس في تركيع سكانها، فشل الإرهاب أيضا في قتل روحها السياحية وفي تسويد صورها الخلابة في سعيه لجعلها منطقة محرمة على عشاق البيئة والطبيعة. رائحة المكسرات والشاي الصحراوي..متعة الزائرين لم يعد السؤال عن الأمن مطروحا على ألسنة الفضوليين ولا حاضرا في نقاشات العائلات التي تتنقل بكبيرها وصغيرها للتمتع بمناظر وهواء يفتح ليس فقط شهية الأكل والشرب ،ولكن أيضا للتفنن في التقاط صور تذكارية حتى لمن لا يحمل معه آلة تصوير رقمية ، لأن كل شيء متوفر لدى الباعة المتجولين . وزيادة على الرائحة المنعشة لأشجار الصنوبر ، فإن رائحة أفران الباعة المتجولين وهم يحمصون الفول السوداني واللوز والذرى وبجانبهم معدو الشاي الصحراوي المعطر لا تترك أمامك أي إمكانية لمقاومة التذوق حتى بالنسبة لمن يعاني مشاكل مع الأسنان . وحيث ما وليت وجهك تقابلك عائلات وقد نصبت فراشا على الأرض أو في موائد خشبية وحطت عليها أشهى الأغذية ، وهناك من حملوا معهم حتى آلات الشواء التي تنبعث أدخنتها من كل جانب يتفنن أصحابها في طهي شتى أنواع اللحم والدجاج والنقانق . ولم يمنع ذلك من أن تعرف المطاعم المنتشرة بالمنطقة هي الأخرى نشاطا وتستقطب زبائن لها لما تقترحه من أطباق محلية . وبعدما كانت عطلة نهاية الأسبوع هي التوقيت الذي تشد فيه رحال الزوار والعائلات الجزائرية باتجاه الشريعة قصد الترويح عن النفس من زحمة المدن وضجيجها ، تحولت كل أيام الأسبوع إلى مزار للعائلات والأطفال الصغار وطلبة المدارس والجامعات سواء في رحلات جماعية أو فردية لاكتشاف الكنوز الطبيعية بالمنطقة خاصة في هذه الأيام من عطلة الربيع. وتوحي مدرسة التلاميذ الذين يعانون من مرض الربو التي تتوسط الغابة ، أن قاصدو الشريعة لا يرغبون في التنزه والترويح عن النفس بل للتداوي أيضا بما توفره الطبيعة من هواء نقي لم تلوثه غازات السيارات والمصانع ولم تصل إليه الأتربة والغبار الذي تنفثه ورشات البناء في المدن . ويتجسد هذا في مشاهدة أحسن رياضيي النخبة الوطنية للعدو الريفي وسباقات المضمار يتدربون ويحضرون " أجندتهم " الرياضية الوطنية والدولية ، عبر مختلف المسالك الغابية التي تستجيب للمقاييس الدولية خصوصا من حيث نسبة العلو عن مستوى سطح البحر الذي يفوق ال 1000 متر ، وهو علو يجعل من الرياضي يأخذ جرعات كافية من الأكسجين أفضل من أي مكان أخر . انعدام النظافة ودورات المياه أكثر ما يؤرق العائلات وحتى وان كانت الطبيعة العذراء قد تغطي عدة نقائص، غير أن توفر بعض الخدمات الحيوية يعد أكثر من ضرورة لضمان راحة السياح والزوار، وفي مقدمتها أهمية توفير دورات المياه بالعدد الكافي وبالنظافة المطلوبة ، وهو أمر من شأنه خلق مناصب عمل لشباب البلدية ويحمي الغابة من بقايا القمامات وبخاصة من قارورات المشروبات والأكياس البلاستيكية التي تشوه بعض المنحدرات من غابة الأرز والصنوبر. والأمر كذلك يقتضي تنظيم حظائر توقف السيارات بالشكل الذي يضع حد للفوضى التي تعرفها خصوصا في عطلة نهاية الأسبوع. هذا الانتعاش السياحي الذي عادت إليه منطقة الشريعة بعد سنوات من بقائها مهجورة يقتضي أن يصاحبها تخصيص استثمارات ليس بمقدور البلدية توفيرها وخصوصا ما تعلق بضمان المزيد من الخدمات بالشكل الذي يعفي العائلات والزوار من اصطحاب معها أكياس من المواد الغذائية التي ترمى في الهواء الطلق مما أخل بالبيئة وبنظافة وعذرية هذه القطعة السياحية الخلابة . بإمكان منطقة الشريعة لوحدها أن تعيد للسياحة الجزائرية مكانتها عالميا وتتحول إلى وجهة للسياح الأجانب لما تتوفر عليه من مناظر فاتنة ومن جو جميل طيلة أيام السنة، وذلك بإعطائها العناية اللازمة وجعلها بمعزل عن العبثية وعن زحف " البيطون " الذي قضى على منطقة المتيجة وفي مقدمتها أشجار البرتقال، ومن ذلك ضرورة معالجة أشجار الصنوبر والأرز التي تتهددها الدودة الجرارة المنتشرة في الكثير منها بالرغم من شروع مصالح الغابات في عمليات زبر للأشجار وفتح بعض المسالك الغابية بالشكل الذي يمنع نشوب أو انتشار الحرائق على خلفية ما وقع في صائفة 2007 .