قد يحدث لأحدنا، أن يكون عابر سبيل في شارع عمومي، لا يعرف أحدا فيه ولا يعرفه أحد، فيستوقفه منظر رجل يعتدي على المارة، فإذا توقف أحدهم وتصدى له، ولو بكلمة قوية في وجهه، فإنك تشعرا بعاطفة غامرة تجاهه، مزيج من الحب والإكبار، وهذا ما نعبر عنه بالزعامة، فالزعيم هو من ينطق بما يعجز الآخرين عنه، ويعمل ما يخافون من تبعات عمله. لقد هتفت الشعوب العربية أيام العدوان على غزة باسم الرئيس شافيز، ورفعت صوره ولو أنه نزل إلى شوارع ومدن العرب، لرفعوه على أكفهم، ولو تقدم لانتخابات رئاسية في أي عاصمة، لحصد فعلا ذلك الرقم السحري 99 بالمئة من الأصوات، سيان في ذلك عواصم الملوك أو شبه الجمهوريات، فالرجل طرد سفير الكيان الصهيوني، وأغلق سفارته في بلده، وقال بعد ذلك أنه "لم يكن ليغفر لنفسه قط لو أنه لم يقطع العلاقات مع تل أبيب، احتجاجاً على حربها ضد غزة" وأنه "لا ينوي إعادة العلاقات معها. لقد تكلم الرجل بما تحب شعوب العرب سماعه، من رؤسائها وملوكها، أؤلئك الذين فضل بعضهم قطع العلاقات مع بلده، عقب إنزال راية العدو من سماء كاراكاس، تلك الراية المشؤومة التي بقيت ترفرف في عواصم بعض العرب، وفي قلوب بعض ساستهم. وشافيز بموقفه ذلك أقام جسرا بينه وبين شعوب العرب، جسر عبر المحيطات والقارات، وظهر الشرخ بين شعوب العرب وحكامهم عميقا موحشا، وليس غريبا أن يؤكد الرجل موقفه في قمة الدوحة الأخيرة، بقوله أنه جاء للقمة: " استعدادا للقتال من أجل العالم العربي، والوقوف إلى جانب الجامعة العربية، التي احتجت أمام العالم على تعدي المحكمة الدولية الجنائية". أي نعم، رجل جاء من أقصى الكرة الأرضية، ليؤكد أنه مستعد للقتال من أجل العالم العربي، وقد يقول بعض محترفي السياسة هذا كلام، ولكن الرجل سبق الفعل عن الكلام يوم غضب لغزة، وتحرك فيه دم الإنسان، إذ تجمد دم القرابة في عروق ذوي القربى، فلم يملكوا نخوة الأعرابي القديم، الذي يهب لنصرة أخيه لا يسأله فيما ندبه، فقال قائلهم: إلى القتال على ما قال برهانا. ولا ضمير العالم المعاصر، والدنيا تعج فيه بمفاهيم الديمقراطية، والحرية وحقوق الإنسان، حتى لو مجرد إحراج المستكبرين، لأن تلك المفاهيم حين تطلق لا تعني المستضعفين، كما وصفهم شافيز، ومشكلة الطبقة السياسية في العالم العربي، أنها ارتكنت إلى مفهوم "السياسة فن الممكن"، بمعنى أن الرؤية تحجب الرؤيا، والحقيقة الواقعة تكبل الحركة لنصرة الحق، وكأننا نشهد تسليما بنهاية التاريخ، فالواقع هو المستقبل "وليس في الإمكان أبدع مما كان"، لكن شافيز يرسم خريطة عالم الغد، ويرى أن مخاضا كبيرا سيكون له ما بعده. فعالم المستكبرين يتمدد في فراغ المستضعفين، وما محاكمة الرئيس السوداني عمر البشير، إلا نموذجا من ذلك التمدد، ووصف شافيز ما تقوم به بالعدالة المرعبة والمثيرة للاشمئزاز، ودعا محكمة الجنائية الدولية، بإصدار مذكرة اعتقال ضد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، والرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز اللذين مارسا الإبادة الجماعية، بل ذهب إلى طلب إدانة الإمبراطورية البريطانية التي تعدت على كثير من الشعوب. صحيح أن الجامعة العربية احتجت أمام العالم على تعدي المحكمة الدولية الجنائية، وعلى استخدامها بشكل يخرق القانون الدولي، لأن هذه المحكمة ليس لديها صلاحية لاتخاذ قرار بهذا الحجم ضد رئيس موجود في منصبه، لكن شافيز ذكر الأمور بمسمياتها، ووصف عمل المحكمة الجنائية الدولية، بأنه استخفاف بالعالم الثالث، وأنها أصدرت مذكرة اعتقال بحق الرئيس البشير، لأنه يقود دولة أفريقية تنتمي للعالم الثالث. هذا هو سر سحر شافيز، فهو يرى الواقع الدولي الحالي بعين سنن التاريخ، ودوام الحال من المحال، وإرادة الشعوب تنتصر ولو بعد حين، وانتشار الظلم مؤذن بخراب الإمبراطورية، والعالم العربي والإسلامي ظل يرزح تحت هذا الظلم، ابتداء من الاحتلال العسكري إلى تحمل رعونة صدام الحضارات، وزادت وطأة الظلم مع خفوت أصوات المعارضة، وتخنق أصوات المعارضين، وأصبحت الشعوب تتحسس كل نبرة تعلو، وتنتصر لقضاياها، وتبشر بالفرج من قيد طال أمده. في هذا الأفق المظلم، ظهر صوت شافيز يخترق الحجب، وينطق بما في الضمائر المكلومة، وينفس عن الأصوات المقهورة، هو يتكلم بغير لسان العرب، ولا يسكن مضاربهم، ولكن كلاماته تصل بيّنَه فصيحة، وهو قريب قرب القلوب من شعوبهم، ويتمنون لو يقبل الانتساب إليهم.