حدثان تاريخيان بارزان، وقعا في النصف الأول من القرن العشرين، شكلا محطتين هامتين، ومنعرجين حاسمين، في تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية، وكان لهما بالغ الأثر في تحديد و بلورة، ورسم، استراتيجيات العمل النضالي المستقبلي، للعديد من التنظيمات السياسية، التي كانت تنشط في الساحة الوطنية، سيما بالنسبة لحزب الشعب، حركة الانتصار للحريات الديمقراطية (P.P.A - M.T.L.D). هذان الحدثان هما: 1- احتفالات الفرنسيين بإحياء الذكرى المئوية لاحتلالهم الجزائر. 2- أحداث 8 ماي 1945 والمجازر الدموية البشعة، التي ارتكبتها الجيوش الفرنسية في حق مواطنين عزل. ففيما يتعلق بمرور الذكرى المئوية على احتلال الجزائر، فإن المعمرين الفرنسيين من الأقدام السوداء، وبدعم من الحاكم الفرنسي العام بالجزائر، والإدارة الاستعمارية الفرنسية، قاموا في إطار الإعداد للاحتفال بهذه الذكرى، بتحضير برامج واسعة، ومتنوعة، من غير أن يراعوا مشاعر الجزائريين، أو يتحاشوا استفزازهم، فقد بالغوا، وأفرطوا، في استعراض مظاهر البهجة، والفرحة، بمرور مائة سنة عن وجودهم بالجزائر، وهكذا قاموا في سنة 1930 باحتفالات ضخمة، شملت حتى إعداد آلاف البدلات، الرجالية، والفساتين النسوية، التي كانت ترتدى، وتستعمل، في مطلع القرن التاسع عشر، ولبسوا جميعا هذه الأزياء، ليحيوا ذكريات أسلافهم الغزاة، وجهزوا سفنا، على أنماط، ونماذج، السفن التي استعملها أجدادهم خلال حملتهم، وركبوها بالفعل في عرض البحر، من باب إعادة تمثيل عملية الغزو، ونزلوا بها في سيدي فرج، حيث أقيمت الاحتفالات الصاخبة على وقع من الصياح، والرقص، والغناء، واللهو، والمجون، والفسوق، والفجور. كل هذه الاستعراضات، والمظاهر، كانت تجري على مرأى ومسمع من الأهالي الجزائريين، الذين حركت فيهم هذه التصرفات، الأشجان الكئيبة، والمواجع الحزينة، والآلام الدفينة، وأثارت في نفوسهم الحسرة، والأسى، وأيقظت في وعيهم الحس الوطني، وعبأتهم بمشاعر الحقد وشحذت هممهم، وبعثت فيهم أحاسيس المقت والكراهية، ضد فرنسا، وأذنابها، فكان أول رد فعل على هذا الحدث، إعلان تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في سنة 1931، التي رفعت شعار الدفاع عن الإسلام، واللغة العربية، ومحاربة التدجيل وكل أشكال الشعوذة، وصون الشخصية الجزائرية من الذوبان. إن مصطلح الحركة الوطنية، من حيث مكوناته، ومفاهيمه، وأبعاده، وأهدافه، مصطلحا يشمل كل الأحزاب، والتنظيمات السياسية الجزائرية بمختلف توجهاتها، وإيديولوجياتها، وبرامجها، التي تنشط في الساحة الوطنية، والتي تسعى من أجل ترقية الشعب الجزائري، وبث الوعي الفكري، والحس الوطني، في أوساطه، سواء بغرض تحقيق الاستقلال الكامل، وإعادة بعث الدولة الجزائرية، التي دمرها الاحتلال الفرنسي، كما هو حال حزب الشعب الجزائري، أو تلك التي تناضل من أجل نيل المزيد من المكاسب، والحقوق للجزائريين، سواء كانت هذه الحقوق سياسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية، أو ثقافية. إن بعضا من قادة الأحزاب الجزائرية، التي كانت تنشط خلال عقد الثلاثينيات من القرن الماضي، كانوا يعتقدون بجدوى العمل الحزبي الشرعي، والنضال السلمي، في افتكاك الكثير من المكاسب والحقوق، من القوة الكولونيالية، مثلما هو الأمر بالنسبة لرابطة المنتخبين الجزائريين، والإتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري (U.D.M.A )، وحتى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الغراء الرائدة، أتى عليها حين من الدهر، فتشابه عليها الأمر، إن حقيقة، أو من باب (التقية)، فاعتقدت بجدوى النضال المطلبي السلمي، خاصة لما توهمت بأن فرنسا، ستستجيب لمطلبها، الرامي إلى فصل تسيير شؤون الإسلام عن الدولة، وتوافقها على عدم مضايقة اللغة العربية، وتعميم تدريسها، وترسيمها، ولائحة المطالب التي قدمها ممثلو المؤتمر الإسلامي العام في سنة 1936، إلى مختلف القيادات الاستعمارية الفرنسية، بباريس، والأجوبة التي تلقوها من طرف هؤلاء، أثبتت لهم بوضوح، بأنه لا يمكن إفتكاك أي شيء ذي بال، أو مثقال ذرة، بتلك الوسائل، من طرف الإستعمار الفرنسي، الماضي، والمصر على تطبيق مشروعه الإستيطاني الإندماجي. أما فيما يتعلق بأحداث 08 ماي 1945، وما رافقها، وتلاها من قتل، وذبح، وتدمير، وتنكيل، وتشريد لمواطنين عزل أبرياء، كل ذنبهم أنهم خرجوا للتظاهر للتعبير عن فرحتهم بإنتصار الحلفاء على النازية، وللإعراب أيضا عن تطلعاتهم، ورغباتهم، وآمالهم، في التحرر و الانعتاق من قيود الاستعباد، أسوة بالشعوب التي تحررت من نير النازية، وكان جزاؤهم الإبادة الجماعية، والتدمير الشامل لقراهم ومداشرهم. إن فضاعة المجازر المرتكبة، جعلت الجزائريين حتى المعتدلين منهم، يستيئسون نهائيا، من أية إمكانية للحل مع فرنسا، إلا بالسلاح، والقتال، والعمل الثوري، واستيقنوا بأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وأن الاحتلال الفرنسي، اعتمد على منطق العنف، والقوة، وينبغي أن يواجه بنفس المنطق. وهكذا تخلى الكثير من زعماء الأحزاب الجزائرية، عن الأوهام، التي كانوا يمنون بها أنفسهم. وقد برهنت تلك الأحداث، على صحة أطروحات حزب الشعب الجزائري ( P.P.A ) ووجاهة نظرته، بقيادة المرحوم مصالي الحاج، وهو الحزب الذي يجسد الاتجاه الاستقلالي الثوري، ضمن الحركة الوطنية، وهو الذي ظل على الدوام، يناضل دون هوادة من أجل الاستقلال الكامل، وإعادة بعث الدولة الجزائرية، التي دمرها الاحتلال الفرنسي في غزوة 1830. إن هذا الحزب الذي أخذ تسمية حركة الانتصار، من أجل الحريات الديمقراطية (M.T.L.D ) شرع مباشرة بعد تلك الأحداث، بالتحضير، والإستعداد للعمل المسلح، ضد الاستعمار الفرنسي، وقد أسس بعد مؤتمره المنعقد في فيفري 1947 المنظمة الخاصة (O.S ) وأسند رئاستها للمناضل الكبير محمد بلوزداد. وقد طفقت هذه المنظمة، في هيكلة الخلايا السرية للمناضلين، في مختلف أنحاء الوطن، وتكفلت بتدريبهم على استعمال الأسلحة، وفنون القتال، وصناعة الألغام، وعناصر هذه المنظمة، هم اللذين دبروا ونفذوا الهجوم، على مركز بريد وهران، في سنة 1949 واستولوا على مبلغ 3 ملايين فرنك، وبهذه الأموال، إشترت المنظمة الخاصة، بالتنسيق مع الحزب، كميات معتبرة من الأسلحة، خزنت في مخابئ بالأوراس، إلى اليوم الموعود، غرة نوفمبر 1954، ومناضلو تلك المنظمة، هم اللذين أسسوا في سنة 1954 جبهة التحرير الوطني، وفجروا الثورة، وتجاوزوا الأزمة العميقة، التي كانت تعصف بالحركة الوطنية، واحتووها، وقادوا الشعب الجزائري قاطبة، في ثورة عظيمة، حررت البلاد، وبعثت إلى الوجود من جديد الدولة الجزائرية.