دائما يراودني هذا السؤال: هل من الممكن أن يرضى عن الرئيس بوتفليقة كل الناس، المعربون والفرانكوفيليون، الاسلاميون واللائكيون، دعاة الثوابت والتغريبيون، المصالحون والاستئصاليون، أنصار العدالة الاجتماعية ودعاة الليبرالية المتوحشة، هل يمكن له -حتى وهو رئيس كل الجزائريين- أن يلتزم بمواقف توفيقية ترضي الجميع وهل يستطيع أن يقود المسيرة دون "أعداء" ؟. من الطبيعي جدا أن يكون هناك خصوم لسياسات الرئيس، يختلفون معها أو لا يتفقون فيها معه، وتقول تجارب الشعوب: إن رجال الحكم الكبار هناك من يحبهم إلى درجة التقديس وهناك من يكرههم إلى درجة التدنيس، ولذلك فمن البديهي جدا أن يكون هناك أعداء وخصوم لبوتفليقة، بل ذلك مطلوب، وإلا ما الجدوى من الحديث عن الموالين والمعارضين، الراضين والساخطين. كان الرئيس الأمريكي روزفلت يقول: "أحكموا علي بعدد الأعداء الذين صنعتهم" وأجدني مستنجدا بذلك القول، لأتساءل: في أي خندق يريد بوتفليقة أن يكون؟ ويأتي الجواب سريعا وهو أن "الأعدء" الذين يصنعهم هم الذي يحددون نوعية الخندق الذي يوجد فيه. ومن منطلق ما هو مفترض ومأمول فإن "الأعداء" الذين يصنعهم بوتفليقة هم الذين يعادون توجهات الشعب ويقفون في وجه تطلعاته. إن السياسة التي تفرز " الأعداء" هي بالضرورة تلك التي تحترم قيم الشعب وهويته وثوابته الوطنية وتكون في خدمة أبنائه، ترفع عنهم الظلم و"الحقرة"، ترسي دعائم الأمن والعدل، ترفع لواء الكرامة والحرية والديمقراطية وتبني دولة الحق والقانون. أما السياسة الأخرى التي تدوس هوية الشعب وتتنكر لأصالته وتلتزم الصمت إزاء ما تتعرض له الذات الوطنية من إذلال واحتقار، فهي سياسة معادية للشعب. إن المتعارف عليه أنه مع كل استحقاق رئاسي، تصبح الصورة كلها مرشحة للتغيير، في اتجاه تكريس السياسات التي تخدم الشعب وتستجيب لرؤاه وتطلعاته وتكون في منحى محاربة الفساد وتطهير الإدارة والقضاء على العشوائيات والطفيليات في الاقتصاد والسياسة. والأمر المؤكد أن الرئيس ليس لديه ما يخسره، بل على العكس من ذلك فإن كل خطوة يخطوها في اتجاه التغيير هي لصالحه، ذلك أن التفويض الشعبي الذي يتوفر عليه اليوم يمنحه القوة اللازمة لإحداث التغييرات المطلوبة وبعث ديناميكية حقيقية في المجتمع، تتميز أساسا بالحيوية السياسية والتنافس الجاد وتسهم في بلورة المواقف والرؤى وتحقيق الفرز الواضح بين مختلف التوجهات الفكرية والسياسية. لن يخسر الرئيس شيئا كلما أقدم على تغييرات جذرية تكون في صالح الشعب، بل على العكس من ذلك سيكون هو الرابح الكبير، من خلال اتساع دائرة أنصاره وتضييق الخناق على خصومه، ولعل التحدي الذي يواجهه يتمثل في تفعيل الإصلاحات وتنشيط المؤسسات وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية، حتى لا يشعر المواطنون أن فريقا واحدا ومحدودا قد استأثر بالحكم وأنه لا يتغير. إن المواطنين يطالبون الرئيس بالكثير وربما بأكثر مما يستطيع، والرئيس يستطيع أن يفعل الكثير وربما أكثر مما يعتقد كثير من المتشائمين، وحتى إذا كانت المعادلة ليست سهلة، فإن قوة الرئيس تكمن في الرغبة الجامحة للأغلبية الساحقة من الشعب بإحداث التغيير، الذي "يجسر" العلاقة بين السلطة والناس ويقضي على "أزمة الثقة" التي تطبع تلك العلاقة ويزيل عن السلطة تلك الصفات التي تنعتها بإدارة ظهرها للمواطنين، تتعالى عليهم وتتجاهل مطالبهم. هنا تعود بي الذاكرة إلى ما قاله الرئيس مرارا وكيف أن الناس تساءلوا في إعجاب إلى رئيسهم يصب غضبه على الجميع من "الأميار" إلى الولاة إلى لوبيات الاستيراد إلى "المافيا التي تبيع وتشتري الضمائر المنساقة لها حتى في السلطة". ما هي الرسالة التي أراد تبليغها إلى المواطنين، هل قصد أن يستفز فيهم النخوة حين دعا الشعب "أن يرفع رأسه"، خاصة وأن المواطن قد أتقن طيلة سنوات الأزمة دور التمثيل، يكذب علنا ويلعن سرا، مطبقا المثل المعروف: " اليد التي لا تستطيع أن تعضها قبلها وادع لها بالكسر..". وكما هو معلوم فإنه بعد الانتصار يأتي امتحان المصداقية، وها هو الشعب بعد أن جدد ثقته في الرئيس وزكاه بتفويض كبير، ينتظر ما ستأتي به الأيام، وما يجب تأكيده هو أن شعار العهدة الثالثة " جزائر قوية وآمنة" ينبغي أن يسقط نهائيا شعار " دولة قوية ومواطن ضعيف" الذي ساد طيلة سنوات الأزمة. إن سياسة الرئيس تتعرض إلى عدة امتحانات، يأتي في مقدمتها امتحان تصحيح العلاقة بين أهل القمة وأهل القاع، ولا حاجة إلى التأكيد بأن ذلك هو الطريق لتكريس شعبية حقيقية وليس شعبية وهمية أو استعراضية، كما أن ذلك هو السبيل للحصول على حب الناس من القلوب. لقد اعترف بوتفليقة بأن مشكلات الجزائر أصعب بكثير مما كان يعتقد، فالمسؤولية كبيرة وخطيرة، تحتاج من المسؤول الأول في البلاد، السعي المستمر للحصول أولا وأخيرا على شهادة تقدير لا يمكن أن يوقعها إلا الشعب. " ساعدني يا رب.." ما أحوج الرئيس إلى ذلك الدعاء، حتى يحظى مجددا بتلك الشهادة الغالية، في امتحان صعب، سيحدد مرة أخرى من هم أعداء بوتفليقة. " يظل المسؤول قويا حتى يطلب شيئا لنفسه.."