عادت المواجهات إلى بريان مع نهاية الأسبوع الماضي، وككل مرة تبدأ "المشكلة" بحادث تافه قد يتسبب فيه طفل صغير أو شاب متهور قبل أن يتدخل الكبار لتبدأ معركة تنتهي، في أحسن الحالات، عندما لا يكون هناك قتلى، بعشرات الجرحى. هذه المرة، وكما جاء في الصحف، تعرضت فتاه كانت رفقة والدها لوابل من قطع الحجارة وبقايا قطع الحديد. بعدها مباشرة انطلقت المواجهات بين الفئتين المتصارعتين. ما يحدث في بريان منذ عدة أشهر ليس بالأمر الهين لأن أصعب المشكلات هي تلك التي تأخذ شكل صراع بين فئتين من الفئات المشكلة لمجتمع ما. كل القضايا يمكن حلها ببساطة عندما تتوفر الإرادة إلا تلك التي تمس الأمن الوطني والوحدة الوطنية، فأنها تخلف دائما جروحا لا تندمل بسرعة بل قد تأخذ، إن لم تعالج بسرعة وبحكمة، اتجاهات وأبعاد خطيرة. الناس، في بريان، كانوا يعيشون في هدوء وسكينة، فكل شيء يجمع بينهم، من الوطن الواحد والمعاناة الواحدة أيام الاستعمار وخلال سنوات الإرهاب إلى الانتماء إلى الدين الواحد الذي هو الإسلام. الاختلاف الوحيد بينهم يكمن في المذهب الذي تتبعه كل مجموعة. الاختلاف في بريان يكمن على هذا المستوى (مجموعة أباظية وأخرى مالكية)، فهل يكفي هذا الاختلاف لنسف كل المقومات والعناصر الجامعة الأخرى؟ الاختلاف في المذاهب الدينية وفي نمط الحياة وطبيعة العلاقات الاجتماعية وحتى في لغة الكلام ونوع اللباس هي، في المجتمعات العادية والواعية، ثراء وتنوع ثقافي يفيد المنطقة ويطورها عندما تشتد المنافسة "السلمية" من أجل فرض الوجود والمساهمة في المجهود الوطني العام لبناء وطن قوي وعصري وآمن. التنوع الثقافي والفكري والديني، وحتى لون البشرة، هو ما جعل الولاياتالمتحدةالأمريكية أكبر دولة في العالم لأن الناس هناك عرفوا كيف يخلقون الجو الذي يسمح لكل مختلف بالعبير عن نفسه ويقدم أحسن ما عنده للمجموعة الوطنية. نفس هذا التنوع هو الذي يجعل الدول الغربية تسير باستمرار نحو التطور المادي والإنساني لأنها تعرف كيف تستقطب الكفاءات من كل الأجناس. وهل يجب التذكير هنا أيضا بأن التنوع الديني والعرقي والفكري واللغوي هو ما جعل الحضارة الإسلامية تبلغ القمة وتصل إلى أصقاع الدنيا في زمن عرف فيه حكامه كيف يستفيدون من كل الأجناس لخدمة وتقوية الدولة الإسلامية. من حق أي كان أن يعلن عن نفسه وعن انتمائه، ومن حق كل مواطن أن يمارس طقوسه ومعتقداته وأن يختار نموذجه في الحياة بشرط أن لا يتعدى على حقوق الآخرين وأن يمارس نشاطاته في إطار ما يسمح به القانون. لكن يبدو أن القانون هو العنصر المغيب في القضية، فبعض التحاليل تقول أن الفتنة في بريان ليست طائفية أو مذهبية بقدر ما هي "مافيوية". مرحلة الإرهاب كانت فرصة في بريان، كما حدث في غيرها من جهات الوطن الأخرى، لظهور نمط من البشر بلا أخلاق ولا روح وطنية. نمط لا حدود لرخصه ولشرهه ولسلوكياته المنبوذة. إنه ذلك النوع من مصاصي الدماء الذين حققوا ثروات كبيرة ومنهم من تمكن من الوصول إلى بعض المنابر (جمعيات، نوادي رياضية، مجالس محلية ووطنية ..) التي يستعملونها، عند الحاجة، لتعطيل تطبيق أي قانون أو مشروع قد يضعف سلطتهم أو يضع حدا لنهبهم، كما يواجهون كل مسؤول لا يرضخ لإرادتهم ولو أدى الأمر إلى إثارة الفوضى والبلبلة للإطاحة به أو لتوقيف البرامج التي لا تخدمهم. بعض التحاليل ترى إذن أن هذه الشرذمة هي من تحرك شباب بريان ليقاتل بعضه البعض في مواجهات طائفية كل مشارك فيها هو مجروح أو مقتول أو مجرم. الغريب أو المحير في الأمر، أن الذين يتراشقون بالحجارة وبقطع الحديد في بريان ويرفضون تقبل بعضهم البعض هم شباب قد لا يتجاوز عمر الأكبر سنا منهم الثلاثين سنة. ولا شك أن معظمهم ينتمون إلى عائلات فقيرة أو محدودة الدخل. في زمن العولمة، حيث يعمل شباب العالم على مد الجسور بين بعضه البعض، وحيث يلتقي الشاب الإفريقي الموجود في أعماق الصحراء الكبرى مع مثيله الإسكيمو القابع في أبعد نقطة بشمال الكرة الأرضية، وحيث تزول كل العراقيل المتعلقة بالجغرافيا واللغة واللون والدين وغيرها، نجد أبناء بريان "يخبشون" في التاريخ بحثا عن اختلافات تبرر رفض بعضهم للبعض الآخر. لماذا يقع ما يقع للشباب الجزائري؟ لماذا ينكفئ على نفسه ويتقوقع حد التصارع من أجل تفسيرات مختلفة لنفس الرسالة المحمدية والتي (التفسيرات) تبقى على مستوى بعض المظاهر ولا تمس أبدا العمق والجوهر الذي هو نفسه؟ لماذا تحرك هذه الشبيبة بكل هذه السهولة من طرف من لهم مصلحة في تفتيت المجتمع الجزائري؟ لماذا يندفع الشاب الجزائري لممارسة العنف عوض الإقبال على ممارسة الحياة مع أن الدين الذي يتصارعون على شكلياته وتفسيرات بعض شيوخه الذين عاشوا أيام كان الاعتقاد أن الكرة الأرضية لا تدور، يدعو إلى تقديس الحياة واستعمال العقل والمنطق في كل تصرفات المسلم؟ أسئلة كثيرة تطرح، والجواب عنها ليس سهلا بل يتطلب توفر مراكز بحث تقوم بدراسة المجتمع من كل جوانبه وبكل فئاته للإجابة عن التساؤلات المطروحة والبحث عما يجب القيام به لتجاوز هذا الوضع الذي قد يكبر ويمتد. على كل من يهمه الأمر (سلطات ونخب) أن يدرك بأن مرحلة ما بعد الإرهاب هي أخطر وأصعب من مرحلة الإرهاب، وأنه لا بد من الإسراع في وضع إستراتيجية للخروج من هذه المرحلة في أسرع وقت وبما يخدم الوحدة الوطنية ويجعل الشباب الجزائري مقبلا على الحياة ومساهما في بناء جزائر آمنة، ديمقراطية وعصرية.