إن ''هذه الشخصيات ستلعب دورا أساسيا وستباعد شساعة وعمق خبرتها إدارتنا على توفير الازدهار والأمن الأمريكي''• هكذا قال بيان للبيت الأبيض وهو يعلن عن تعيين ناطق رسمي باسمه، مباشرة بعد انتخاب الرئيس الأمريكي الجديد، باراك أوباما، وبينما قدم لشخص روبرت غيبس، وطاقمه المتكون أساسا من مديرة الاتصال ومساعد مدير الاتصال، اعتبر أن الأمر يمثل وجها آخر لاستراتيجية أوباما في مجال الاتصال والشفافية التي تبنّاها، ومن ورائه البيت الأبيض في ظل العهد الجديد، شأنه شأن باقي العهدات الرئاسية في كلا الحزبين السائدين، انطلاقا من إيمان متشبع بأن الإعلام هو أول ذراع أو مفصل يتحرك في ممارسة السلطة، وأول جبهة تفتح عند كل معركة داخلية أو خارجية، ضمن عمل استباقي مدروس يجعل من قوات حفظ الأمن والمارينز قوة احتياطية وحسب• هذا الاهتمام الكبير بدور الإعلام وكل وسائط الاتصال، يتم تجسيده عمليا بتنشيط ندوات ولقاءات صحفية دورية وعلى المباشر، لنقل كل الانشغالات بين طرفي الحكم وبشكل فوري، والحفاظ على جسور التواصل وتلاقي الأفكار ووحدة الوجدان والطموحات التي زرعت منذ الحملة الانتخابية وأثمرت عند تزكية مشروع ''نعم نحن نستطيع'' إحداث التغيير، حيث تدرك التجربة الديمقراطية الغربية أهمية الاتصال والتواصل الدائم في الاستشراف الجماعي للمستقبل وإقرار الخيارات وصياغة القرارات المناسبة، ما يجعل الدولة مجموعة واحدة، ومشروعا مشتركا يتدافع الجميع لإنجازه بثقة وقناعة وشفافية تامة• عندنا يبدو أن الأمر قائم على علاقة محدودة بين طرفي معادلة الحكم، وبينما كنا نتوق إلى توسيع دائرة التواصل والتجاذب بين السلطة ووسائل الإعلام، للوصول إلى إدراك وفهم أكثر للواقع وتحسس مشترك للمستقبل، من منطلق أن ''الإعلام الحق لا يكون أبدا في تناقض من المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية للمجتمع، فبقدر تأثره بها بظل مؤثرا فيها ومن المحركات الفاعلة في الوعي الجماهيري''*، وهي مرجعيات تقتضي مبدئيا إدماج هذا الفاعل في بلورة الفعل الوطني ووضعه في الصورة، ليكون مكملا للرؤية ومبلورا لها، بدل تقزيم دوره وإبقائه على الهامش، ما يحيله إلى أداة سلبية همّها التشكيك والطعن في كل الأعمال والخيارات• واقع تعامل مؤسسات الدولة عندنا توحي وكأنها في حالة خصام أو عدائية، أو حساسية، على أقل تقدير، مع وسائل الإعلام، عمومية أو خاصة، مكتوبة أو مرئية أو مسموعة، حيث تغيب عن الممارسة اليومية، وحتى عن التصور، مثل تلك القناعات المعبّر عنها هناك، بل ويتجه المشهد إلى تعميق هدا التنافر في وقت تبدو الحاجة ماسة وحيوية لتحرك إعلامي تلقائي ''لإبراز التحولات التي تشهدها الجزائر في كل الميادين، وهو نابع من شعور بالدور المنوط بكل وسائل الإعلام (•••) لمواكبة عملية انتقال المجتمع إلى مرحلة ما بعد الإرهاب وما تكتسيه من أهمية سياسية واجتماعية وثقافية، فضلا عن دورها الإعلامي'' (*)• فبينما كان الإعلاميون، ومن ورائهم الرأي العام الوطني، يطمح إلى تكريس تفتّح الحكومة السابقة على الاتصال، باعتمادها لناطق رسمي يلتقي أسبوعيا مع وسائل الإعلام ويرد على انشغالاتهم، وتوسيعها إلى دوائر أعلى، بالنظر إلى الصدى الإيجابي الذي تركه الإجراء، وحصول نوع من التكامل الوجداني، تم التراجع عن هده الممارسة ''المسؤولة''، تاركين الإعلاميين والمواطن غارقين في بحور من الأسئلة والاستفاهات المعلّقة، وفي جهل كامل لما يجري إنجازه أو الإعداد له، وهو ما يحول الرأي العام إلى كتلة مهمشة ورقم جوهري مقصي• وتعيدنا هذه الطفرة في تقدير أهمية الاتصال، إلى تقليد الندوات الصحفية التي كان ينشطها الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية منذ سنوات الثمانينيات وإلى غاية أوساط التسعينيات، وكان، عبد العزيز سبع، آخر من ظهر بهذه الصفة، حيث كانت أسئلة الإعلاميين وما تثيره وسائل الإعلام الأجنبية حول واقعنا ويومياتنا، وأداء دبلوماسيتنا تجاه رهانات علاقاتنا الخارجية وإكراهاتها أيضا، تجد أجوبة شافية، أو على الأقل توضيحات أو إشارات، أما اليوم فلا يجد الصحفي وكل مهتم أمامه سوى ابتلاع أسئلته أو البحث عن مصدر ما يمكنه تسليط الضوء على هوامش الظل وينقذه من حالة التيهان والعجز الفادح في ''تنوير'' الرأي العام، وهي أسوأ وأحرج موقف يقع فيه الإعلامي، إلى حد الشعور بالألم وتعذيب الذات• وذات الشأن بالنسبة لباقي مؤسسات الدولة، ومن بينها رئاسة الجمهورية، إذ كانت تعقد جلسات بينية ''بريفينغ'' لفائدة مسؤولي النشر وبصفة دورية، ليوضعوا في صورة استراتيجية الخيارات المتخذة، وخاصة بالنسبة للقضايا الحساسة الداخلية أو الخارجية، كما هو الشأن الآن مثلا بالنسبة لقضية الاتحاد من أجل المتوسط، العدوان الإسرائيلي على غزة، الأزمة الموريتانية، ملف الصحراء الغربية في الأممالمتحدة، زيارة الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط بحر الأسبوع الجاري، محاربة القاعدة وقضية أفريكوم وتهديد الاستقرار في مالي والنيجر، إلى جانب القضايا الداخلية وفي مقدمتها مشروع العفو الشامل، زيارة الرئيس إلى باريس، القضايا المرتبطة بتركات الاستعمار الفرنسي، الانضمام إلى المنظمة العالمية للتجارة، والتعامل مع الأزمة المالية العالمية، وعندها يكون مسؤولو المؤسسات الإعلامية على بيّنة من الخطوط العريضة للسياسات المعتمدة، ومن ثمّة يتحول العنوان إلى أداة مندمجة ومنخرطة بشكل إيجابي في التنمية ونسج وتشكيل الرأي العام والمشروع الوطني، وحتى وإن حدث وأن عارض بعضهم خيارات مؤسسات الدولة، فإن القراءة تكون مؤسسة على خلفية حقيقية واضحة المعالم، ومن ثمّة فإن ما يبادر به لا يمكن ضمن ممارسات التشويش أو خبطة عشواء، بقدر ما يعتبر هامشا لممارسة للرأي وحرية التعبير• هذا النفور والتهميش الحاصل، يجعل الصحفي وأقلام الرأي والافتتاحيات في معاناة حقيقية، وعرضة للوقوف موقف المعارض أو المشوش لرؤى مؤسسات الدولة المبنية على معاينات خبراء، من حيث لا يدري، خاصة وأن بعض ما يصدر أو يروّج له هنا وهناك لا يخلو من الدسيسة والمناورة، ولعل أهم مؤشر عن حالة التيهان وشغف الإعلامي إلى تلقف الخبر من مصدره وتحسّس أبعاد الأحداث وتعامل السلطات العمومية معها، هو ذلك التلهف ''المفضوح'' على ملاحقة ممثلي الحكومة حيثما وجدوا، وخاصة في الخرجات الميدانية، ومناسبات الحضور الجماعي للطاقم الحكومي، مثل حضور جلسات افتتاح واختتام أشغال البرلمان ومناقشات مخطط الحكومة، أو ترقب خطابات الرئيس ورسائله الموجهة إلى الرأي العام، كما حدث في الحملة الانتخابية لرئاسيات 2009، حيث فتح كل الملفات المطروحة على الساحة الوطنية، سياسية، أمنية، اجتماعية واقتصادية، مع التركيز أكثر على وزراء قطاعات السيادة، وخاصة وزير الداخلية والجماعات المحلية، نور الدين يزيد زرهوني، ومسؤولي القطاعات التي تشهد أحداثا وتطورات استثنائية سعيا لإيجاد إجابات شافية• ورغم هذا الواقع المؤلم، والذي يحزّ في النفس كثيرا، لأنه يعطّل التوافق والتكامل ويفتح أبواب جبهات هامشية نحن في غنى عنها، فإن الأسرة الإعلامية تفاءلت كثيرا برسالة رئيس الجمهورية في عيدها العالمي، وسارعت إلى التطلع اإلى المستقبل وترقب تعامل واع مع المنظومة الإعلامية ووسائط الاتصال والتواصل، يضاف إلى ما يوفره الإطار القانوني المنظم للمهنة من فضاءات، انطلاقا من تلمسها لمعاينة الرئيس لحيوية أدائها، وأهميته في نسج وعي المجتمع وقواه المتحركة بالفعل الوطني• (*) مقاطع من رسالة رئيس الجمهورية إلى الأسرة الإعلامية في 2 ماي 2009 بمناسبة اليوم العالمي لحرية التعبير•