لحظة جزائرية مخضرمة هناك لحظة جزائرية، لحظة في الروح والعقل لا ترغب فيها في أن نقرأ شيئا آخر إلا الأدب الجزائري لحظة تفضيل واحتياج يكاد أن يكون بيولوجيا، تبحث فيها عن (جرعتك) الجزائرية الخالصة النقية، حيث أسماء العالم، أسماء الكواكب والجبال والسهول والصحاري، هي دائما (فتيحة، حورية، خيرة، بوعلام ولخضر··وما شئت) وهي نفسها أسماء الحرية والثورة والحب والغضب، وهي نفسها مذاق خاص للعالم وللأشياء، وقد يقول التاريخ والجغرافيا أن المرء يولد جزائريا أو لايولد، أما الأدب فيقول أن تكون جزائريا هذا أمر نتعلمه مع الوقت، وغالبا ما نتعلمه بكثير من الغبطة والعذاب والقاف· هذا ما تقوله روايتان جزائريتان صدرتا بشكل متزامن تقريبا تزامن الصوت والصدى، أو تزامن السؤال والجواب· وبالنظر إلى أسئلة المتن الأول ''جسر للبوح وآخر للحين'' للمبدعة الاستثنائية المخضرمة، زهور نيسي· وبالنظر إلى أجوبة المتن الثاني ''الإعصار الهادئ'' للمبدع الشاب بوفاتح سبقاق لن يكون من المبالغة القول إن المسافة بينهما لا تزيد على مسافة البيرد، ذهابا وإيابا بين حد الجرح وحد السكين· صدرت الرواية الأولى ( يجب التذكير أنها رواية وزيرة) عن دار زرياب للنشر، في إطار الجزائر عاصمة الثقافة العربية، وهذا تسهيل كبير لمن لا يصعب عليه شيء أصلا، في حوالي ثلاث مائة صفحة، وهو نفس حجم الرواية الثانية الصادرة عن العالمية للطباعة والنشر، ولعلها صدفة غير جديدة بالتنويه أن يشترك الكتابان في لون الغلاف، بحيث يبتلع الأزرق العميق كل الإحتمامات اللونية والنفسية والاجتماعية، فهل هي العشرية الزرقاء أخيرا بعد انقضاء كل المدة الكافية بين السؤال والجواب، بين انفجار اللامعقول في جزائر التسعينيات وانفجار التهكم في جزائر العولمة··؟ الأحزان المتقاطعة تنتصب أمامنا مدينة قسنطينة، في تاريخ شديد الراهينة (الآن وهنا) وعلى صعيد الجواب تقوم مدينة توقرت في السياق الدرامي والكرونولوجي نفسه وجهان عمرانيان وجها للجزائر، الأول بريشة وقلم ذلك الذي صنع التاريخ والثاني بريشة وقلم ذلك الذي ورث التاريخ، وبينهما مسافة أقرب مما بين الجرح والصرخة· يهتف الرواي في البوح والحنين: قبل أربعين عاما حملت حلمي بين أضلعي، حلمك أيها الغريب لم يتحقق إن الراوي هنا إطار سام في الدولة يحمل ثقل رصيد كبير من الكفاح الثوري، منذ الجبال النوفمبرية المشتعلة إلى أروقة الوزارات الإستقلالية الأولى، إنه فاعل كبير يتذكر سلسلة من الفاعلين الكبار المرفوعين كلهم ب الضمة الظاهرة ضمة النحو السياسي، والنصب والتسكين والكسر السياسي، حرفيا ذهب الرجال كلهم لم يحتملوا السقوط فغابوا عن الوعي صرعى من أثر خيانة غير مرئية وفي آخر تطواف طويل، مرهق في شوارع قسنطينة (الملاذ، المنف، العودة الإضطرارية إلى رحم الأم يهتف الرواي بمدينته العزيزة على قلبه هل عرفت لماذا أهرب، ومما أهرب؟ إن الفضاءات المهنية والإجتماعية لبطل رواية جسر للبوح وآخر للحنين، هي نفس الفضاءات المهنية الإجمتماعية لسيدة زهور ونيسي، ولكن ربما يتوجب علينا السفر إلى الجنوب، إلى تفرت، كي نعرف مما قد تهرب السيدة زهور ونيسي· لا جديد يذكر بالمدينة هكذا يقول بوفاتح أو بطله الجراد يملأ الأكنة وأصبح لعبة الأطفال اليومية· اليوم عيد ميلادي يجب أن نلاحظ أنه على هامش العولمة يلعب الأطفال بالجراد، وأنهم قد وجدوا لهم علاوة على ذلك (متفرج متفرغ) حاصل على شهادة الليسانس، وعلى دفتر الخدمة الوطنية أيضا ثمة شيئان على الأقل زائدان على اللزوم· في هذه الوحة بلدة صحراوية زائدة على العولمة وشاب حيوي ومثقف زائد على البلدة، وعليه أن يقتنع أنه زائد على الوجود كله· ففي أول الرواية كما في آخرها، لاشيء سوى الجلوس في مقهى الحي للاحدث الذي يتكرر يوميا هاهنا في هذا الفضاء العدمي، يلتقي بطل بوفاتح مع بطل زهور كلاهما تتم إحالة وجوده دوره وأحلامه إلى اللاحدث كلاهما المجاهد المكافح الإطار السامي، مثله مثل متأمل الجراد، كل في فضائه الخاص، يحال إلى النفول إلى الكسر السياسي والوجودي بقدر ما يتعلق الأمر ببطل (الإعصار الهادئ) فليس عليك أن تبحث عنه بعيدا حتى بعد أن تجاوز تسعة أعشار الرواية:'' جلست كعادتي في مقهى ''حي أتباع السيناريو اليومي''، ولهذا حين تحصل المعجزة المستحيلة ويحظى البطل بعقد عمل في دولة الشارقة بالإمارات العرية، وطوال الطريق إلى المطار نتمنى من أعماق قلوبنا أن لا يلتفت وراءه وأن لا تظهر في الأفق أية جرادة· ما الذي يخيف الحمام ويخيف القصور أيضا! في قمة الهرم، هناك في الأروقة السامية حيث يعمل الإطار السامي، كما هناك في أسفل الهرم في الأروقة الجرادية، مطلوب ''تأشيرة الهروب على عجل'' هكذا نعرف إلى أين بلغ السيل، لكننا لن نعرف أبدا من أين بدأ، نعرف أن الوباء هو المسؤول عن تحويل خريجي الجامعات في تفرت إلى أرباب في السوق السوداء، وتحويل الإناث منهم إلى جواري في الأسواق الحمراء والزرقاء، لكن بطل (الإعصار الهادئ) احتاج إلى ثلاثة مائة صفحة ليدرك أن هذا هو بالضبط معنى الملاحة في الوحل، وليدرك أيضا أن الطائرات العابرة للقارات هي حبل الخلاص الوحيد، وهو نفس ما أدركه بطل ( البوح والحنين) بنفس الدرجة من التأخير :'' ربما تمنى يوما أن يكون العالم بين يديه، أما اليوم فرغبته فقط أن يعثر على بعض من خيوط النسيج المبعثر بألوانه داخل الذاكرة، إنه يريد الماضي بجميع أحداثه وتفاصيله، يريد الماضي بإيجابياته وسلبياته، لم يبق أحد من الرجال سواك رمز من رموز الزمن الشهيد، في انتظار أن تأفل أنت أيضا والجرح الحارق بين يديك'' هل هناك ما هو أبعد من الماضي، منفى وملاذ، هل يماثله في البعد إلا المسافات التي تقطعها الطائرات العابرة للقارات؟! يجب أن نتذكر ما الذي تمثله زهور ونيسي - أو بطلها - في صراع الوطن المستعمر واللغة المستعمرة والهوية المستعمرة، كي نعرف بالضبط ما الذي يحال على ( التقاعد الوجودي) في هذه الرواية مال الذي يحال ببطء وهدوء وفعالية إلى ( اللاحدث)؟! أو بكلام آخر: في النص الأول كما في النص الثاني إنه الوباء الملعون نفسه، الوباء الآكل للقيم الوطنية على مستوى القمة هو نفسه الوباء الآكل للقيم الأخلاقية والاجتماعية على مستوى قاعدة الهرم، وإنه ليست صدفة أن يكون البطل الحقيقي لكلتا الروايتين هو ''الهروب''، مع كل الفرق البديهي بين الهروب البورجوازي بتذكرة سياحية، والهروب الشعبي داخل الأروقة الجرادية· إن بطل السيدة زهور لم يفقد أمواله ولا شيئا من امتيازات طبقته الأرستقراطية، وإنما فقط دوره السياسي فحسب· أما بطل بوفاتح سقاق، ففقط لأنه لا يملك شيئا على الإطلاق يمكن القول أنه لم يخسر شيئا على الإطلاق، وإن هذا الفقر الجوهري هو ( نصف الرسالة) ونصف الجواب الذي لم يقله بطل الإعصار لبطل البوح، والحنين· إن هذه هي الرابطة الخفية بين هذين العمليتين الفنيين اللذين يجمع بينهما كل شيء ويفرق بينهما كل شيء، يفرق بينهم عمر المؤلف وطبقته المادية والمعنوية وتاريخه وحوافزه النفسية والاجتماعية، ويجمع بينهما - رغم كل شيء- منطق السبب والنتيجة، ومنطق النحو السياسي الذي يرفع ويخفض ويجر ويصرف ويمنع من الصرف· فحين يلاحظ بطل البوح والحنين، النقص الفادح في محلات بيع الزهور في قسنطينة، يتوجع من أعماق قلبه :''ما هذا الجفاف! لماذا لا يستثمر أصحاب المال أموالهم في مشاتل الورود؟!'' وإنه لسؤال جاد تماما ودرامي تماما· في مستوى معين من العيش بالطبع، وإن هذا هو الفرق بين من يصرخ في عز المذبحة الوجودية :''أنا واحد من جيش كبير يبحث عن جبهة عمل''، وبين من يصرخ في عز مذبحته الدبلوماسية:'' مشتلات الورود؟'' وهي أكثر من لحظة جمالية متسامية، إنها لحظة تكشف عن المذبحة الصورية وعن حقيقة مأساة البطل البورجوازي الذي نعلم يقينا أنه مهما استرسل مع أمواج الحنين في منفاه المؤقت بقسنطينة، سرعان ما سوف يعود إلى أشغاله الجادة، المثابرة، داخل الدواليب السامية لنفس الآلة التي اتهمها في ( البوح) بالمسؤولية عن تعفين العالم من قسنطينة إلى تفرت، سوف يعود إلى العائلة السياسية نفسها - هكذا أخبرتنا المؤلفة - لأنه مها بلغ من سخطه عليها لن يكف عن دعمها بمجهوداته والانخراط فيها كما كان على الدوام، وعند هذا الحد، لا تصبح رواية البوح أختا لرواية الإعصار· إنها موضوعيا (الرواية الأم، بقلم السيدة الأم) بمعنى السبب والنتيجة وبمعنى الفعل وآثار الفعل، فلم يحصد الإعصار الهادئ إلا ما زرعته صاحب البوح والحنين·