ثورة الأيدي الصغيرة أطفال، أطفال، أطفال، على امتداد الكتاب المؤلف من مئتي صفحة، لا شيء ولا أحد سوى الأطفال في بطولة مطلقة، يحيلون إلى مرتبة (الكومبارس) ليس الكبار وحدهم بل عقل الكبار وحقائقهم ومعلوماتهم عن العالم والحياة والأشياء· وللأسف لا يعلم الكبار - وأنّى لهم أن يعلموا - أنك تستطيع أن تسكن داخل محفظة وأن تقضي ليالي بأكملها داخلها، ولا يعلم الكبار أيضا - رغم أن كتاب القراءة المدرسي يقول ذلك - أنه في (البلد الجميل) وفي الشارع الجميل - مع البشرية الجميلة- لا يوجد شيء سوى ما يمكن أن يوجد في موضوع إنشاء من جمال ونظام، إنه وحده - موضوع الإنشاء- أحسن العوالم الممكنة، وأبطاله المصنوعين من ورق ودهشة وسذاجة هم أبطال هذه الشذرات الفنية التي يبلغ بها الكسل والشرود أن لا تتحوّل أبدا إلى قصص مكتملة، مستديرة ومكتنزة، وإنما دائما وأبدا التسطيح المنهجي الشبيه باللوحة التجريدية التي لا تعرف أبدا إن كنت أنت من يراها ويقرأها، أم أنها هي من يرى عقلك الباطن ويقرأه بلا استئذان··· وليس هم الأطفال وحدهم (المهندسون) الأقل عقلا على الإطلاق الذين كلّفهم (علاوة حاجي) برسم الاحتمالات الأخرى للعالم والأشياء· هناك أيضا حزمة الأفكار الوسواسية، الثابتة الإستحواذية والتي نراها بأسمائها نفسها عبر كل قصص وحكايا ولوحات (الست عيون) أو الرؤيا السداسية للعالم: السيد المعلم، المدرسة، البلد الجميل، جدتي وأبي وأمي، هكذا إلى ما لا نهاية في أفضل مدينة وأفضل بلد وأفضل خارطة فلسفية للوضع البشري، فمن يجرؤ على تكذيب كتاب القراءة المدرسي وهو بعيد كل البعد عن أن يكون مدينة فاضلة - من ورق - محكوم عليها بالإقامة الجبرية بين جدران المدرسة؟ إننا جميعا نعرف أن الأطفال هم مستقبل العالم، إلا أن علاوة حاجي يعتقد جازما أن أفضل ما يمكن أن يحدث للعالم أن (يستطفل) تماما، على وزن يسترجل، وأن يسمح لقوة البديهة الطفولية أن تثبت تفوّقها على العقل البالغ المتهم بالتناقض والفساد، وبأنه في خصومة دائمة مع نفسه· بورتريه الوحش : مئة وتسعون صفحة، فسيفسائية، متشذرة إلى مجموعة من العوالم المتوازية، المتكاملة، بعضها في حجم خمسة أسطر، وبحجم صفحة واحدة وكل الأحجام، في مخيال فانتازي، سلاحه الأقوى بعد البساطة الفاضحة ذلك المزج السحري المذهل حقا، بين أقصى (الكوميك) وأقصى المأساة، وليس من الممكن تقريبا تلخيص هذا النص نصف الحكائي نصف الإنشائي، وإنما يمكن استحصال (فوتو -روبو) لهذا (المسخ) الأدبي الفاتن الجميل، عبر الملامح الملتقطة التالية: 1 - الملمح الصرصوري: يعلم الطفل الشارد أن النملة هي مثال المثابرة والكدح والمردودية ··· لكنه يفضل النزوات الصرصورية ويرفع عاليا كل شعارات المؤسّسة الصرصورية القديمة قدم العالم : الكسل البهيج ومراقبة العالم عن كثب، والابتهاج بالحياة وحدها· إن هذا الصرصور الوفي للقيم الصرصورية يعيد للنملة العالم بأكمله، يعيد لها العيش، مقابل شيء واحد، هو الحياة نفسها، صارخا على طريقة الشاعر الإنجليزي (إيليوت) : أين هي الحياة التي فقدناها في ·· العيش؟! 2- ملمح الغباء المنهجي يتكرر وسواس المدرسة والسيد المعلم والدرس الثقيل في طول وعرض المدينة الفاضلة الطفولية، هذا الوسواس المعرفي الذي يحيل إلى أسئلة الحقيقة واليقين والمعرفة الشافية، والتي يمكن للشرود الخلاّق أن يخرّبها جميعا من خلال تقمص نموذج التلميذ الغبي والطفل الأبله، في دلالة رمزية ترغب في استعادة الجهل الأول، الدهشة الأولى القوية الآسرة التي يبدو صاحبها فاغر الفم مثل درويش معتوه، أو حكيم بوذي يبتسم مما يراه خلف الجفن المغلق· ولأن الأطفال غالبا ما يختلط عليهم الحد الفاصل بين الحقيقة والشرود، فلا عجب أن يعتقد بطلنا الطفل الشرير، أنه الصاحي الوحيد، المنتبه الوحيد في عالم هو في أحسن الأحوال نصف عاقل· 3 - ملمح المهرج : بالمعنى الجميل لهذه الكلمة، لأننا بالفعل نعجز تماما عن التوقف عن الضحك من أول صفحة في هذا الكتتاب إلى آخر صفحة· الضحك المفعم بالزفرات والتنهدات، لأن علاوة حاجي بعيد تماما على أن يكون ساذجا، وإنما فقط لا يتردد لحظة في : التخلي العاقل عن كل عقل، إن له طريقته الخاصة في التغابي والتي قد تجعله موهوبا في السذاجة المنهجية إلى درجة العبقرية· 4 - ملمح مقاومة النضج، أو اللجوء داخل محفظة : لا يكتفي هذا الطفل بمقاومة المدرسة بالشرود ومقاومة الدرس بالبلاهة الاختيارية، بل يقاوم أيضا كل آليات الإنضاج وآليات القَوْلبة والتعديل ·· إن (السكن داخل المحفظة) يضعنا أمام (المحفظة الكهف) التي تكشف عن رغبة عميقة في الهرب والتكهف واعتزال بحر النضج الزائف وكل عالم البالغين المزيفين· 5 - ملمح اللاّ أدب : نقرأ في رواية (ست عيون في العتمة) عشرات القصص والمقاطع الحكائية، لكننا لا نقرأ (أدبا) مصنوعا بالمعنى التقني للكلمة· فكأنه أدب خارج الأدب لا يعبأ بتشكيل الاستعارة البليغة والكناية الذكية والوصف الدقيق المرهف، بل لا يهتم ب (الجملة الفنية) المنحوتة المستقطرة أو المسبوكة أو المطروقة تطريقا يكاد يكون يدويا··· ومال الصراصير والنحت والاستقطار والسّبك والتطريق ؟! الأمر كله لا يعدو جمالية موضوع الإنشاء البسيط، أي : التزويق الحاذق وملء الفراغات المنطقية بأبسط كلمة غير منطقة على الإطلاق :''هذه أول ليلة يقضيها داخل محفظة· وهو لم يفعل ذلك لأنه يهوى قضاء الليالي داخل المحافظ، وهي لم تستوعبه لأنها كبيرة الحجم فحسب، بل لأن جسده الضئيل قد يختبئ في أي مكان'' نقول: من يجرؤ على التكذيب؟! ونقول أيضا إن الجمال الفني زائد على اللزوم في هذه الجملة البسيطة المكتوبة خصيصا لغير العاقلين حيثما كانوا· هل نسينا شيئا؟ أجل ! تم طبع هذا الكتاب الشهي، اللاذع، تحت إشراف ''آل البيت'' للطباعة والنشر، وهي مكافأة مستحقة لكافكا الجزائري - نظير كافكا النمساوي - الذي يخلط السكر بالملح ويخلط العسل بالخل والبصل، في مطبخ فني وفكري لا أثر فيه للكبار البالغين وهي ميزة يصعب تكلّفها ويصعب تقليدها·