فما الذي تقيأه النقد والتاريخ طوال سبعة آلاف سنة من مغامرة الأكفار إلا الفتور وبحر الإعتدال وكل التقنيين السامين، وما الذي استنقذه النقد والتاريخ في سبعة آلاف سنة إلا كمشة قدّيسين وكمشة شياطين، وما بينما التشابه والوفرة والنُفول• كل الكلام من فضة ! أين يمكن العثور على الفنان المبدع، أيا كان مجال إبداعه، في تلك الفترة المتوسطة بين الإنتهاء من (أثر فني) والشروع في أثر آخر نقول الفترة في استعارة متعمدة في اللغة الدينية التي تقصد بالفترة ذلك الصمت السماوي بين كتابين مقدسين بين ما لا يصبح قط منتهيا وما لا يصبح قط مبدوءا، أين يمكن التماس الفنان المبدع ان لم يكن في ذلك النادي الإستثنائي الذي لو لم يكن سريا جدا وخصوصيا جدا، لربما حمل في العلن لافتة (الصامتون الكبار)، هناك حيث يختلي المدمنون ومنهم فائزة مصطفى المدمنون على ( التعبير الذاتي)، ضحايا تلك الرغبة شبه الدينية في قول الذات، كل الذات، وقول العالم كل العالم في (أثر واحد) اكتمل له نقصانه إلى الأبد، هناك يمكن أن نلتقي صاحبة الحكي الأزرق فائزة مصطفى في مجموعتها القصصية ''أزرق جارح'' المنسوجة جبرا هشا على جناح فراش لاهثة في جمالها أو جميلة في لهاثها، نظير وتهوي، وتتطوح وتقفز وتحلق في استماتة جديدة بالإعجاب، مما يؤكد حدسنا بوجودها المرجح في ذلك النادي المشفى، المخبأ، بين جريمتين أو بين مأثرتين برفقة أولئك الذين (أذنوا)، تكلموا أو غنوا، وفي آخر اللعثمات قرروا أن ما هم في مسيس الحاجة إليه حقا إنما هو مأدبة كاملة من ما قبل اللغة أو ما بعدها أو ما حولها، هناك في أقصى صمت الصمت حيث يتدفق النص السيري إلا بعد من باطن والأكثر من صامت، هناك أبدع ما يمكن عن فضة الكلام ونحاس الإسهاب وقصدير التمظهر والتبرير، هناك حيث لا شيء إلا قلب الصمت أو صمت القلب أين تمتحن الفراشات الإستثنائية أصالة أجنحتها أو أصالة صمتها الذي هو نفسه لغتها المفارقة الفريدة• ومهما يكن من أمر هذا النادي الغريب ومن مسألة تواجد فائزة مصطفى بداخله، إلا أننا ربما كنا في غنى عن التنبيه بأن وليمة الصمت هي شيء للتذوق لا للفهم! أزرق ناعم جدا•• أزرق جارح، ذلك هو عنوان المجموعة القصصية، وهو أيضا العنون المفتاحي، البؤري لهذا العمل الفني بأكمله• وفي الأقصوصة التي أعارت عنوانها للكتاب، نشهد في خمس صفحات الإحتضار الطويل المؤلم للشاب (الحراف) ونرى معه تيار الأحلام والذكريات الذي يحمله من سراب أحمر إلى سراب أزرق إلى السراب الأكبر الأخير، سراب الحياة نفسها، بسرعة تكاد أن تكون غير ملحوظة، يحرق الشاب ويحترق في صحاري الظمأ الوجودي والظمأ المعيشي، حيث ربما يجب أن تشرب البحر عمليا كي ترتوي مرة وإلى الأبد، ولا يملك المرء إلا أن يفكر رغما عنه أنه يمكن أن يحدث الكثير جدا في خمس صفحات، خاصة حين يتعلق الأمر بذلك الذي قام بكل الحياة من كل الحياة، وأن هذا ربما هو سر غرابة ذلك الإنطباع أو ذلك المذاق الأخير الذي يبقى لنا من هذه القصة غرابة أن يبدو والبحر كمشتبه فيه، أول يرتقي إلى درجة الفاعل القدري الكبير الغامض، المستأسد على شاب في العشرين من عمرهم، وأن بصماته الزرقاء، وسوابقه في الجرح (ويفترض أن الجرح هو الوصف الشعري لتلك الدقائق الأخيرة الرهيبة التي يعيشها أو يموتها الحراف وسط الرعب واللاهواء واللاأمل)• إن هذه الإبادة المائية، إبادة حزب الماء، التي لا بصمات فيها للقاتل إلا بصمات التجريد المفرط والشاعرية المفرطة هي ما يجعلنا نتساءل عن مدى ملاءمة القاموس الشعري الغنائي لوصف•••ماذا نقول؟ أي شيء إلا وصف الفوسفور الأبيض أو الأزرق بأنه، في منتهى التعبير ومنتهى المأساة، جارح، هكذا لوصف موت الناس جماعيا ووصف المآسي التي بحجم البقاء أو الفناء وحجم الحرية أو العبودية، نأمل أن لا يضطرنا السهو الأزرق إلى (الدعاء) لصالح الحرافة: إن كان لابد أن يغرقوا ويموتوا، ففي أزرق فائزة مصطفى دون سواها! رؤيا زرقاء أم مرحلة زرقاء؟ هل نلوم المبدعة فائزة مصطفى لأنها لم تقطع أذنها على طريقة (فان غوخ) وأن الحس المأساوي يعجز عن امتلاكها، وأن حزنها الرقيق لا يتكافئ مع مصائب العالم ونكباته، إلا الحد الذي نقترح عليها صمتا عميقا يشبه أن يكون إيحاء بالإستقالة؟! والجواب هو كلا (موضوعيا) رغم أنف البابا وكل الأحكام البابوية، وكلا أيضا وأيضا بقدرما يتعلق الأمر بصعوبة تجاهل الحوافز الإبداعية الأصلية الكامنة وراء القصص العشرة التي تتألف منها مجموعة (أزرق جارح) كخطوات هامة في التعبير الذاتي الذي هو نفسه أكبر مجهود يمكن أن تبذله الذات من أجل إدراك نفسها ومن أجل البلوغ بها، بهذا الإدراك وهذا التعبير، حدا أقصى من الضبط الذاتي الذي يكاد أن يكون هو (مقام الإحسان) في هذا المسار التحريري الماجد، وهو نفس المضمار الشاق النبيل الذي اختارته فائزة مصطفى، والذي يجب أن تستمر فيه معنا جميعا رغم أنف هذا المزلق العارض أو ذاك، ولا نقول رغم أنف ( أمراض النمو) والتي هي نفسها مؤشر حياة ومؤشر امتياز•• أما الصمت الخلاق فمضنون به على غير أهله، ذلك الإمام الصامت الذي أخرسته الحكمة وأخرسه إعجاز الحياة، فليس من عجب أن يكون الأعضاء الفخريون في نادي (الصامتون الكبار)، هم مريم الصامتة أمام الإعجاز، وزكريا الصائم عن الكلام، وموسى معقود اللسان•• وعلى صيد أدنى: آرثر ريمبو، ومايا كوفسكي، وأبو الهول• فليست بالهوية السهلة أن يبحث المبدع عن صوته ونبرته الأصلية في قلب الصمت نفسه، فذلك كأن نطفىء المصباح لنرى أنفسنا أفضل، فهل سترى المبدعة المتميزة فائزة مصطفى، أين تبدأ الزرقة في رؤياها الفكرية والجمالية وأين تنتهي؟