كان فارغ اليدين من أي متاع يذكر، كل ما حمله معه في رحلة الخرطوم كان علم بلده، وهاتفا نقالا من نوع نوكيا ,1100 إضافة إلى سروال رياضي أخضر وقميص يحمل اسم الماجيك ''بوقرة''، وحنجرة لم يهدأ لها صوت·· كانت وجبة العشاء في طائرة الخطوط الجويّة الجزائرية، كفيلة بشدّ أزره طيلة ليلته الأولى في الخرطوم، اقترب منا بعد أن علم أننا من الصحافة، وراح يسرد بحماسة قصّته مع ''الخضرا'' التي بدأت من غليزان ووصلت إلى السودان·· وجاء دورنا اليوم لنقص لكم قصتنا مع عبد الله وعشرات الأنصار الذين يشبهونه حالا وترحالا، في رحلة الإباء والنيف، ابتداء من أول خطوة في تراب الخرطوم، وصولا إلى آخر خطوة في تراب النيل الأزرق·· هكذا تحوّل ليل الخرطوم الساكن إلى نهار أخضر·· خرج أنصار ''الخضرا'' من بوابة مطار الخرطوم، كما يدخل أنصار الخضرا إلى ملعب ''تشاكر'' بالبليدة، يهتفون ''جيش شعب معاك يا سعدان·· نجيبوها من السودان''· هتافاتهم الموحدة، دفعت بالعشرات من السودانيين إلى الالتفاف حولهم بدهشة الاكتشاف، في ظاهرة لم يعهدها أبناء أرض النيل الأزرق، الذين توحدت بعد دقائق قليلة أصواتهم مع أصوات الجزائريين ''ألي البشير، ألي البشير، أو أو أو، ألي ألي ألي''· هتافات انسجم معها الخرطوميّون وأبدع فيها رفقاء عبد الله·· عبد الله، الذي توقف فجأة عن الهتاف بعد أن أدخل يده في جيبه وتذكر أنه على أرض أخرى بعيدة عن أرض وطنه بأكثر من 6000 كلم، وأن أصابعه لم تلمس في جيبه سوى أربع قطع نقدية من فئة 10 دنانير جزائرية·· صمتُ الشاب الغيليزاني، لم يستمر طويلا، فقد حضر ممثلون عن السفارة الجزائريةبالخرطوم وأعلموا ''الرحّالة'' الجزائريين بأن المأوى والمأكل النظيفين في انتظار الجميع، لتلتهب الحناجر من جديد ''بوتفليقة، بوتفيلقة، أو أو أو، ألي ألي ألي''· تركنا عبد الله وجماعته يتأهبون لركوب حافلات السفارة نحو ''المعسكر'' كما يسميه السودانيون، والذي يسع أكثر من 2000 شخص، وتوجهنا بدورنا إلى مجموعة أخرى من المناصرين الجزائريين، الذين أبانوا لنا، عن مخطط آخر لرحلتهم، ومن بينهم توفيق (33 سنة) و5 من أولاد حي حسين داي بالعاصمة· كان توفيق وشلته بصدد التفاوض مع سائق تويوتا صغيرة ذات العشر مقاعد، قصد التكفل بنقلهم إلى إحدى الفنادق بالخرطوم، وكانت نتيجة التفاوض أن يتكفل السائق بتنقلاتهم اليومية، طيلة مكوثهم في الخرطوم (3 أيام) مقابل 50 دولارا أو ما يعادل 240 جنيها سودانيا، وبعد ثوان قليلة من الاتفاق، كانت التويوتا مزينة بالرايات الوطنية الخضراء والبيضاء والحمراء، متجهة نحو ''فندق الفردوس'' بقلب العاصمة الخرطوم، في الوقت الذي حملتنا حافلات السفارة الجزائرية، إلى فندق ''التاكا''، لنكتشف في طريقنا إلى الفندق، بأن توفيق ورفقاءه لم يكونوا وحدهم الذين حولوا سيارات السودانيين إلى ''ناقلات جند جزائرية''· وفي ظرف نصف ساعة من وصول طائرة الجوية الجزائرية إلى الخرطوم، في رحلتها الشعبية الأولى، محملة بأكثر من 140 مناصر جزائري، أصبحت شوارع المدينة السودانية المضيافة، أشبه بشوارع الأحياء الشعبية الجزائرية، وتحول ليل الخرطوم الساكن إلى نهار أخضر·· اهجموا وروح السودان معكم مع الساعات الأولى لصباح الثلاثاء 17 نوفمبر، فتّحنا أعيننا المرهقة على ''معاك يا الخضرا''، وزمّارات السيارات السودانية التي تكفل سائقوها بالتجوال بالشباب الجزائري المتوافد على الخرطوم شيعا وفُرادى، فمنَ السائقين من تقاضى ثمن التوصيلات ومنهم من أقسم على الجزائريين أن لا يتقاضى جنيها واحدا، حبا وكرامة منه، وهو حال السواد الأعظم من أهل الخرطوم الذين زادونا قناعة بأن الفراعنة سقطوا من قمة أهرامهم صاغرين·· زكريا، عبد الكريم، رابح ومجموعة من الشباب الجزائريين البلعباسيين، الذين قطعوا شارع عبد الرحمن بيك، المحاذي لفندق التاكا، بقلب الخرطوم، سيرا على الأقدام·· في وجوهم الشامخة فخر بكونهم جزائريين· يقول زكريا، وهو في العقد الثالث من عمره، ''لم يسبق وأن افتخرتُ بهويتي الجزائرية بقدر ما أفتخر بها اليوم'' ويضيف صاحبه رابح ''يا دين الربّ، تقول رانا في بلعباس''· أما عبد الكريم، فاكتفى بالهتاف ''ألجيري بلادي ساكنة في قلبي'' قبل أن يتقدّم منه طفل سوداني ليطلب منه إعطاءه العلم الجزائري·· لم يستطع عبد الكريم التفريط في الراية الوطنية، لكنه لم يردّ الطفل السوداني خائبا، فأعطاه عصابة المعصب الخضراء التي كانت في يده، وضعها الطفل في يده وركض مبتهجا بالهديّة· مرور زكريا ورفاقه أو أي شخص يبدو في لباسه أو في ملامح وجهه، بأنه جزائري، بإحدى شوارع الخرطوم، كان كفيلا بتهييج الشارع وارتفاع أصوات السودانيين ''جزاير، جزاير، جزاير''، ''اثنين، تغلبوهم باثنين إن شاء الله''، وكان اسم ''زياني'' كافيا لمناداة أي جزائري يمشي في شوارع أرض النيل الأزرق، في الوقت الذي لم يظهر للون الأحمر الفرعوني أي خبر، باستثناء بعض السيارات المسرعة التي تطل من نوافذها أعلام مصرية مرتعشة وخجولة، حيث كان زئير المناصرين الجزائريين في شوارع الخرطوم كفيلا باحتجاب أي لون أحمر·· ''ما عندناش وما يخصناش·· وإذا خصّنا الدولة ما تخلّيناش'' الساعة الثانية بالتوقيت السوداني ومنتصف النهار بتوقيت الجزائر، كان موعدا لتعرف أغلب المناصرين الجزائريين الذين لم تتوقف لهم خطوة في شوارع الخرطوم، على الأكل السوداني، الأمر الذي دفع ببعضهم (الذين فضلّوا الإقامة خارج معسكر البعثة الجزائريّة) إلى اكتشاف المطاعم القليلة المتواجدة في قلب العاصمة، بما فيها المطاعم المصرية، التي كانت محاطة برجال الأمن السوداني· والجدير بالذكر أن العادات الغذائية للسودانيين تختلف عن عادات الجزائريين، مما دفع بأغلب المناصرين إلى عدم الاقتراب من المأكولات غير المعروفة، واستهلاك أصناف محددة من الأكل، على غرار الشوارمة (3 جنيه سوداني) وقطع الدجاج (6 جنيه للقطعة) وقارورات المياه المعدنية (جنيه واحد)، مع العلم أن دولارا أمريكيا واحدا يعادل 5,2 جنيه سوداني· هذه الحسابات النقدية جعلتنا نتذكر شبابا جزائريين وصلوا إلى السودان بجيوب فارغة من الدولار والجنيه، وحتى من الدينار الجزائري، فسارعنا إلى الاتصال بأحد أصدقاء عبد الله الغيليزاني للاطمئنان على حال صاحب الأربعين دج·· صديق عبد الله الذي يطلقون عليه لقلب ''الروجي'' كان قد دخل الخرطوم ب20 دولارا، أعانته على شراء شريحة هاتف نقال سودانية وشحنها في مطار الخرطوم، وكنا قد طلبنا منه في المطار تزويدنا برقم الشريحة، للاتصال به واستقصاء ظروف إقامته وأصدقاءه في ''المعسكر''· الروجي، لم يعطنا فرصة السؤال على أحوال شباب المعسكر، وبادرنا بالإجابة مباشرة ''ما يخصنا والو، الله يبقي عليهم الستر، الأكل، الماء، السرير النظيف وحتى ملابسنا تغسلها العاملات بالمعسكر·· حشمونا والله غير حشّمونا··'' وقبل أن ننهي حديثنا مع ''الروجي'' سألناه عن عبد الله، فأخبرنا بأنه نائم بعد أن قضى ليالي الاثنين إلى الخميس كلها، هاتفا بحياة الخضرا·· اللون الأخضر يزيل أحمر شفاه الفراعنة ليلة الثلاثاء، ليلة أخرى من ليالي الخرطوم التي استقبلت أعدادا متزايدة من الجماهير الجزائرية التي هبّت لنصرة الخضرا·· علمنا أن أكثر من 15 طائرة جزائرية حطت في الساعات الماضية على مطار الخرطوم، وأن أكثر من 8000 مناصر دخلوا التراب السوداني إلى غاية الساعات الأخيرة من نهار 17 نوفمبر، في انتظار توافد الأنصار الآخرين الذين تعجّ بهم مطارات الجزائر·· اللون الأخضر يغزو أكثر فأكثر شوارع الخرطوم وحركة السيارات السودانية/الجزائرية، المزدانة بالألوان الوطنية، تتزايدا بشكل ينبئ بيوم لم تشهد الخرطوم مثله في تاريخها المعاصر··· الشباب السوداني خرج من موقف المتفرج ودخل أجواء المناصرة، إلى درجة أن أغلب المحال السودانية رفعت أعلاما جزائرية على نواصيها، خصوصا محال الهواتف النقالة، التي تزدهر تجارتها في الخرطوم؛ بشكل ملفت للانتباه·· ''العلم الجزائري، صور زياني، عنتر يحيى، صايفي·· وأبطال الجزائر''، غزت شاشات الكمبيوتر المخصصة لنقل النغمات والصور للهواتف النقالة السودانية، وأصبح العلم الجزائري على اختلاف أحجامه، طلبا عزيزا يأمل الخرطوميون اقتناءه بكل الطرق، حتى ولو كان دفع الثمن نقدا، أو مقايضته بسلعة مادية أخرى، في مشاهد استثنائية، تجعلك ''تنفخ صدرك'' لكونك جزائريا، وتدفعك إلى قضاء ليلة بيضاء أخرى حتى صباح يوم الحسم، يوم الأربعاء 18 نوفمبر، الذي لم يمرّ مرور الكرام على أصحاب ''الفنلّة الحمراء'' الذين لم يقدّروا جهد أمن سوداني، غمر الجزائريين بالحب وغمر المصريين بالأمان· والدتي منعتني من الذهاب إلى القاهرة وأمرتني بالذهاب إلى الخرطوم تدابير أمنية مشددة·· تجنيد أكثر من 15 ألف رجل أمن، بمشاركة القوات النظامية التي تشمل الجيش والشرطة والأمن والاستخبارات السودانية، كل ذلك ظهر جليا مع الساعات الأولى ليوم الحسم، وهو الأمر الذي حدّ من وقوع أي اشتباكات بين المناصرين الجزائريين العارية صدورهم من أي خوف وبين المناصرين المصريين المدججين بالحيطة، باستثناء بعض المشادات اللفظية والرمزية التي زادت من أجواء ترقب الساعة الثامنة والنصف مساء، موعد انطلاق المباراة بملعب أم درمان، البعيد عن وسط المدينة بحوالي خمسة كيلومترات·· كل ذلك ومطار الخرطوم مجنّد لاستقبال أعداد متزايدة من الجزائريين، مع العلم أن الطائرة الأخيرة التي حملت الجندي رقم 13 في المنتخب الوطني، حطت على رصيف مطار الخرطوم في حدود الساعة السادسة والنصف بتوقيت الخرطوم، الرابعة والنصف بتوقيت الجزائر، محملة بآخر المحظوظين بتذكرة السفر نحو حلم أم درمان، ومن بينهم محمد (26 سنة) شاب بطّال من حاسي مسعود، لم يصدّق أنه كان في الموعد قبل ساعة من انطلاق المباراة، يقول محمد بحماسة كبيرة ''والله غير رابحين، وربي كبير، والدتي منعتني من السفر إلى القاهرة، الأسبوع الماضي، لكنها أمرتني في الليلة الماضية، بالتوجّه إلى العاصمة وركوب الطائرة نحو الخرطوم، هي التي خاطت لي هذا العلم ودعت للخضرا بالخير، وعندما ترفع أمي يدها بالدعاء، ربّي ما يخيّبهاش'' أما سعيد وهو مناصر ''مجنون'' بوفاق سطيف، جاء على متن الطائرة الأخيرة أيضا، والذي قابلناه عند مدخل أم درمان، فقد اكتفى بابتسامة كبيرة وهو يخرج لنا من سترته ثلاث شعلات ''فيميجان''، لا نعلم إلى غاية اليوم، كيف دخلت حصن القلعة الحمراء بأم درمان·· قلعة امتلأت عن بكرة أبيها قبل ثلاث ساعات من صفارة الحكم السيشيلي، مثلما امتلأت حناجر المناصرين الجزائريين بالهتافات المقسمة بربّ الخضرا، أنها ستعطي للفراعنة العبرة في حب ألوان الوطن· سعدان، لعب بخطة 1/2/4/4 ! في طريقنا إلى ملعب القلعة الحمراء كان لنا حديث مع عبد الحميد وهو موظف بشركة الخطوط الجوية الجزائرية، لم يفوت فرصة مناصرة الخضر بأم درمان، وفي مناقشة تقنية مع عبد الحميد المهتم كثيرا بأمر الساحرة المستديرة يقول ''سعدان، سيلعب الليلة بخطة 4 / 4 / 2 / ,''1 وقبل أن ننبه عبد الرحمن بأن الخطة التي ذكرها زائدة على ال11 لاعبا المخوّل لهم دخول البساط الأخضر، قال وهو يشير إلى المدّ البشري الأخضر المتجه نحو ملعب أم درمان ''هذا هو اللاعب رقم ,12 عمود ارتكاز تشكيلة سعدان''· جئنا لنسمع ''قسما''التي لم نسمعها في القاهرة هناء وأختها، التقينا بهما في مدرجات الخضر، قدمتا من دبي خصيصا للشهادة على انتصار الخضرا بأم درمان، على المتفرعنين المصاروة، وتقول هناء إنها اشترت بطاقات دخول الملعب ب100 أورو للبطاقة الواحدة، وأنها جاءت من دبي خصيصا لتنشد مع الجزائريين النشيد الوطني الجزائري، الذي لم تسمعه في التلفاز أثناء مباراة السبت الماضي بالقاهرة، بسبب هتافات المصريين وانقطاع الصوت، وهو الأمر الذي سبب لها انزعاجا كبيرا·· أخت هناء أخبرتنا أنها من الغرب الجزائري، من بلعباس تحديدا وهي مقيمة مع أختها في الإمارات منذ سنوات، وأنها المرة الأولى التي تدخل فيها ملعبا لمناصرة فريق كرة قدم، لكنها آثرت هي وأختها أن تشاركان في ''ملحمة أم درمان'' من خلال ارتدائهما للقميص رقم 12 للفريق الوطني· مثلهما مثل، الكثير من المناصرين الذين قدموا من فرنسا ومن كندا ومن ألمانيا ومن المغرب، إضافة إلى فنانين ورياضيين سابقين وسياسيين وكباتن طائرات الخطوط الجوية الجزائرية وموظفين وحرفيين وصحافيين وبطّالين اكتسحت أعلامهم ملعب القلعة الحمراء، وأسكتت أصواتهم حناجر الفراعنة، في زأرة رجل واحد حجّ إلى السودان ولعب في تشكيلة سعدان فأرعب ''الفرعان'' (للضرورة الشعرية) · فاصل ونواصل وهنا نكبح جماح قصة اللاعب رقم 12؛ لأننا سننشغل بمتابعة أجواء المباراة في ملعب أم درمان، وسوف لن نملك لا العين ولا القلم ولا الصبر في رصد شيء خارج البساط الأخضر، وبما أن رصد أمور البساط الأخضر، أمر موكل إلى أصحاب الأقسام الرياضية، نستسمح القارئ الكريم في هذا الفاصل ونلتقي بعد المباراة·· الخرطوم: مبعوث ''الفجر'' رشدي رضوان