''الفجر'' التقت نسيمة بعد الحفل الذي أحيته في المركز الثقافي الجزائري في باريس وأجرت معها هذا الحديث• عرفتك في الجزائر مطربة أندلسية كبيرة، خرجت من معاطف كبار رجال الموسيقى الأندلسية في مدينة الفن والتاريخ مدينة الورود البليدة وشهدت على سحر صوتك في بودابست عام 1986 بمناسبة الأسبوع الثقافي الجزائري في المجر• حدثينا عن نسيمة منذ استقرارها في باريس وهل وجدت في عاصمة الفنون الجمهور الذي كانت تتصوره؟ هويتي الأندلسية الأصلية لم تتغير وأنت تعرف أنها تخضع لمواصفات موسيقية لا تتبدل باعتبارها تراثا إنسانيا وذاكرة حضارية تضرب بجذورها في تاريخ الأندلس، التي جمعت المسلمين والمسيحيين واليهود وأكدت في آن واحد سماحة وعظمة ديننا الحنيف فنيا وفكريا ومعماريا• الأغنية الأندلسية التي تشرّبتها منذ سن السابعة في البليدة مسقط رأسي، ما زالت تميّز هويتي الفنية كما قلت• ولأنها تمثل ذاكرة شعبنا الحضارية كما هو شأن وحال موسيقى شعوب أخرى على وجه المعمورة••فإنه لا يمكن الاستغناء عنها وستبقى حيّة ما دامت تشكّل وجدانا حضاريا جماعيا• الموسيقى الأندلسية أو الموسيقى العلمية والأدبية بامتياز، أدّيتها في المسارح والقاعات والمهرجانات العربية والعالمية الخاصة بموسيقى الشعوب وبرمجتي الدورية في مسرح المدينة الشهير بباريس في أعوام 2000 و2003 و2006 و2009 خير دليل على سحر الأغنية الأندلسية وأسرها للنفوس• وأنت شخصيا حضرت أكثر من مرة حفلاتي وكنت شاهدا على إقبال الجمهور الكبير• هذه المقدمة التي كانت ضرورية غير كافية للرد على سؤالك لأن الجمهور الذي أقبل على أغنيتي الأندلسية بشكلها الكلاسيكي اقتصر في مرحلة أولى على الجمهور الفرنسي الذي تعوّد على اكتشاف كل أنواع الفن من الأجانب والعرب، الذين قدموا من القارات الخمس• وبكل تواضع أقول إن مسؤولي مسرح المدينة لم يعاودوا برمجتي أكثر من مرة إلا بطلب من الجمهور، وتجاوبه معي من جديد هذه السنة يؤكد رضاه على عطائي والجمهور الذي يتردد على مسرح المدينة يعد جمهورا ذوّاقا من الطراز الأول• بهذا المعنى أستطيع القول إن جمهورك الأول خلال الأعوام الأولى كان جمهورا فرنسيا نخبويا بحكم طبيعة توجّه مسرح المدينة، وكان عليك في مراحل لاحقة الظهور أمام جمهور عربي ومغاربي وجزائري تحديدا وهذا ما تحقق لك مؤخرا بألبومك الجديد ''أغنيات وجذور'' الذي قدمته في مسرح المدينة وفي المركز الثقافي الجزائري •• هذا صحيح واقتصار الجمهور في مسرح المدينة النخبوي على الفرنسيين في مرحلة أولى كان أمرا طبيعيا من منطلق الرغبة في الاكتشاف• لكن الأمر تطور في المناسبات اللاحقة وتنوّع الجمهور أكثر بحكم انتشار صدى النجاح الأول والتحق بالفرنسيين بعض العرب والجزائريين الذين يتذوّقون الأغنية الأندلسية وحضروا الحفلات التي أحييتها أكثر من مرة في معهد العالم العربي وفي اليونسكو• وأنت تعرف أن الأغنية الأندلسية ليست رائجة بالقدر الكافي في الأوساط الجزائرية المهاجرة لأسباب يطول شرحها ويأتي على رأسها المستوى الثقافي والموقع الاجتماعي والمحب للأغنية الأندلسية يجب أن يكون محبا للتراث الشعري والأدبي الكلاسيكي بوجه عام• الملاحظ في ألبومك الجديد عودة قوية إلى الأغنية الشعبية، سواء تلك التي عرف بها الكبار من أمثال الراحل الهاشمي فروابي وبوجمعة العنقيس أو بعض المغنين الأمازيغيين الذين اشتهروا على نطاق شعبي واسع في الجزائر وفي أوساط الجالية المهاجرة مثل سليمان عازم• لماذا الشعبي تحديدا وهل فرض عليك لأن سوسيولوجية الجمهور في الأوساط المهاجرة دفعتك إلى ذلك؟ الأغنية الشعبية ليست جديدة عليّ وهي جزء من تربيتي العائلية الفنية وانحدرت تاريخيا من رحم الأغنية الأندلسية التي درستها أكاديميا، كما ذكرت لك وعليه لا يمكن اعتبار أدائي للأغنية الشعبية مفاجأة غريبة• إذا كانت عودتك إلى الأغنية الشعبية لا تعتبر مفاجأة ••يبقى التساؤل عن توقيتها في محله ولاشك أن هناك ما يفسّر هذه الإطلالة في سياق المكان والزمان• هذا صحيح وحاجتي إلى التعبير عن بعض المواقف والأحاسيس التي لا تسمح بها الأزجال والموشحات الأندلسية كان السبب الأول والأخير وراء هذا المنحى• والحب كقيمة وجدانية ربّانية وصوفية متجذّرة في الموشحات ليس نفسه في الأغاني الشعبية والعصرية• وذهبت إلى أبعد من ذلك لما كتبت ولحّنت وغنيت باللغة العربية الدّارجة وباللغات الأمازيغية والفرنسية، الأمر الذي وسّع دائرة جمهوري وأعطى بعدا غير مسبوق في تجربتي الفنية• ولعل اختياري عنوان ''أغنيات وجذور'' لألبومي الأخير، خير دليل على تشبّثي بهويتي الأصلية وانفتاحي على معطيات نفسية وسوسيولوجية فرضت نفسها عليّ في المهجر• في أغنية ''نساء كل الألوان •••نساء كل الأوجاع''، التي كتبت كلماتها وأديتها باللغة الفرنسية دعوت إلى نبذ العنف ومشاركة النساء في السلام• لماذا هذا الموضوع تحديدا؟ ببساطة لأن العنف موضوع الساعة بامتياز، وكجزائرية لا يمكنني إلا أن أعبّر عما عرفته ورفض العنف يعني الجميع بغض النظر عن الجنس أو السن أو الموقع الاجتماعي• والأهم من ذلك هو التأكيد أن الدعوة للسلام ليست حكرا على الرجال ومشاركة المرأة في رفض الظلم بكل أشكاله يتسم بوقع خاص بحكم بقاء الكثير من النساء تحت وطاة رجال يعتقدون باسم الدين أو الايديولوجية المحافظة بأن المرأة غير قادرة على المساهمة في التغيير الاجتماعي في حين تعدّ اللبنة الأولى في بناء الأجيال وغنائي باللغة الفرنسية لم يكن من باب دغدغة مشاعر الفرنسيين أو الجري وراء شهرة جديدة، بل كان من منطلق إيصال رسالة المرأة الجزائرية التي ما زالت وفيّة لماضيها التحرري وغير المستعبدة كما يظن الكثير من الأوربيين الذين يكتفون بالتأويلات المغرضة التي تحط من شأن الجزائر وغيرها من البلدان العربية والإسلامية التي أعادت الاعتبار للمراة في الحياة الاجتماعية بوجه عام• غنيت وكتبت أيضا عن الهجرة بشكل مؤثر وكرّمت الفنانين الكبيرين سليمان عازم والشيخ الحسناوي والراحل الهاشمي فروابي• لماذا هذا المنحى بالتحديد؟ الغربة موضوع إنساني أزلي مثل المرأة والعنف•• وتناولها لا يخرج عن حزمة القيم التي أؤمن بها وإن كنت لا أزعم أنني كنت في مستوى سليمان عازم والشيخ الحسناوي اللذين دخلا تاريخ الأغاني التي تعالج الغربة• أنا فخورة وسعيدة جدا بالصدى الذي لاقته في فرنساوالجزائر وقد بلغني مؤخرا أنها تصدّرت قائمة الأغاني الأكثر رواجا• إذا قارنا كلمات سليمان عازم والشيخ الحسناوي وكلمات أغنيتك•••نلاحظ أنك تناولت الهجرة من منطلق التجربة الشخصية الضيقة وليس من منظور المعاناة والعذاب، ما تعليقك؟ من الطبيعي أن تختلف المقاربة ولا يمكن مقارنة سياق غربتي مع الظروف الشخصية والتاريخية والاجتماعية التي أحاطت بغربة الفنانين الكبيرين سليمان عازم والشيخ الحسناوي• وعلى الرغم من صعوبة الظرف التي دفع بي إلى الهجرة أثناء العشرية الدموية التي عرفتها بلادنا لا أستطيع القول إنني أتعذب اليوم أو أعاني كما عانى الحسناوي، رغم أن البعد عن الوطن والعائلة والأصدقاء يبقى العامل المشترك الذي يجمع كل المهاجرين بغض النظر عن درجات المعاناة من شخص لآخر لاعتبارات كثيرة تخص نفسية وحياة ومزاج كل واحد• الغربة صعبة في كل الحالات لأن المهاجر لا يملك إلا العيش على إيقاع الحنين إلى البيت الأول ولا يمكن في أي حال من الأحوال الانسلاخ عن ماضيه حتى وإن كان يعيش حاضرا ميسورا ماديا• واختياري عنوان ''أغنيات وجذور'' لألبومي الأخير خير دليل على تعلّقي الدائم بالجزائر• ولأن السعادة الحقيقية تبقى روحية الطابع والجوهر، وجب عليّ أخلاقيا التنبيه والقول إنني لا أعاني ولا أتعذّب، لكن أحن يوميا إلى الجزائر التي تكوّنت فيها على أيدي موسيقيين كبار والذين أدين لهم بالمستوى الذي مكّنني من التحول• وكنت أتمنى أن أصبح سفيرة بلادي في العالم انطلاقا من الجزائر وليس من باريس• ومهما يكن من أمر، أستطيع القول إنني سعيدة بتمثيلها أمام جماهير أجنبية انبهرت بموسيقانا الأندلسية• ألا تعتقدين معي أن الهجرة في مثل حالتك ضرورية على الصعيد المهني وخاصة في بلد أوربي متقدم كفرنسا بحكم توفر المحيط الذي يسمح بتطور الفنان الموهوب، وهل تظنين أنه كان بإمكانك تحقيق شهرة عالمية لو بقيت في الجزائر؟ أنت تعرف أن ظهوري أمام جمهور أجنبي كان يتم في إطار رسمي وعلى الرغم من أهمية الأسابيع الثقافية التي شاركت فيها إلى جانب فنانين كبار •••تبقى التجربة التي يخوضها الفنان في محيط أجنبي متقدم مهمة جدا على صعيد الصقل والتكوين المتجدد والاحتكاك مع مثقفين وكتّاب وفنانين وإعلاميين من الطراز الأول باعتبار باريس ملتقى المبدعين العرب والأجانب• وكما ذكرت، فإن ظهوري في مسرح المدينة العريق أكثر من مرة يؤكد هذه الحقيقة• ما هي المناسبات الفنية التي شعرت فيها أكثر بأنك تمثلين الأغنية الأندلسية فعلا استنادا لخصوصية التظاهرة وتجاوب الجمهور؟ شعرت بذلك في روسيا والولايات المتحدةالأمريكية وإسبانيا وكندا وكوريا وفي بلدان أوربية أخرى، مثل السويد وبلجيكا وإيطاليا• ولكن ظهوري في الباكستان إلى جانب كبار الأغنية الصوفية ترك وقعا خاصا في نفسي واكتشفت يومها أن أغنيتنا الأندلسية تسحر النفوس بامتياز وشرفني بعض الإخوة المشارقة بإطلاق اسم ''فيروز الجزائر'' عليّ• وكانت مشاركتي في البلدان المذكورة مناسبة للغناء على خشبات مسارح شهيرة عالميا ومن بينها مسرح سبايس سمفونيه بنيويورك• مشاركاتي العربية في تونس والمغرب وليبيا كانت هي الأخرى ناجحة ويمكنني القول وبكل تواضع إن اسمي أصبح يمثل الجزائر في كل التظاهرات المدرجة في خانة موسيقى شعوب العالم وأنا فخورة بتمثيل بلادي في كل مرة• أخيرا، يبدو لي أنك عاتبة على المسؤولين الجزائريين الذين ساهموا في تغييبك عن قصد أو غير قصد عن تظاهرات فنية ومن بينها المهرجان الإفريقي الأخير، كيف تنظرين إلى هذا الأمر؟ يؤسفني أن أؤكد ذلك ولا أفهم هذا الموقف، علما أنني أتشوق للظهور أمام جمهور بلادي التي كونتني كما ذكرت• وشخصيا، لست ضد استضافة مطربين ومطربات عرب أو أجانب من باب التلاقح والتبادل، لكن أعتقد أنه من غير المعقول أن تغيب مطربة لم تتنكّر يوما ما لعطاء وجميل وطنها•