لا أعتقد أن الحديث عن المطرب العملاق جان فيرا، الذي رحل مساء يوم السبت الماضي عن عمر يناهز التاسعة والسبعين، تكفيه هذه الفقرة التي لم أبرمجها أصلا في سياق تصوري لأهم الأحداث الثقافية والفنية الجديرة بالتقديم رغم صعوبة الاختيار في أهم البلدان الأوربية ثقافيا لا أعتقد أن الحديث عن المطرب العملاق جان فيرا، الذي رحل مساء يوم السبت الماضي عن عمر يناهز التاسعة والسبعين، تكفيه هذه الفقرة التي لم أبرمجها أصلا في سياق تصوري لأهم الأحداث الثقافية والفنية الجديرة بالتقديم رغم صعوبة الاختيار في أهم البلدان الأوربية ثقافيا. كنت قبالتي شاشة التلفزيون في الساعة الثامنة لمشاهدة نشرة الأخبار حينما فجعت بخبر رحيل فيرا صديق الشاعر الكبير لوي أراغون، صديقه وملهمه ومؤدي قصيدته ”المرأة مستقبل الرجل”، وأغاني الجبل والحب حتى الجنون، وبوتمكين، وكم هي جميلة الحياة، وسلسلة أخرى من الأغاني التي امتزجت من خلالها روح الالتزام الإنساني بقضايا البسطاء و”الزوفريا” والأحاسيس النبيلة وسحر الطبيعة والسكينة، الأمر الذي يخرج الرحيل فيري من قفص الإيديولوجية بمفهومها النضالي الضيق رغم انتسابه للشيوعيين الذين أنقذوه من مخالب النازيين باعتباره ابن يهودي أنهى حياته في المحرقة. فيرا الذي تبكيه اليوم فرنسا بمتطرفيها اليمينيين واليساريين، وبمعتدليها دينيا وسياسيا وبماسونييها وبتروتسكييها وكاثوليكييها.. أكبر من كل التصنيفات الإيديولوجية والأخلاقية لأنه خاطب الوجدان الإنساني في أشمل معانيه بصوت دافئ وحالم يذيب الجليد ويحرك مشاعر المتزمتين إيديولوجيا ودينيا، ذلك لأنه غنى الشعر والكلمات الادبية والأبدية الممجدة لخصال وقيم أخلاقية وجمالية وروحية تجمع كل المحبين للعدل والخير والفضيلة، بغض النظر عن مدى الاتفاق أوالاختلاف مع الشيوعية التي اعتنقها رفقة صديق عمره الشاعر الكبير أراغون، ورفض الانخراط في صفوف مناضلي حزبها لانه كان اسمى وأوسع وأعمق وأصدق من الشيوعيين المتحزبين الذين افتقدوا لأحاسيسه ولبساطته ولنكران ذاته ولصوته القوي والحنين في آن. فيرا كان من فصيلة - ليو فيري وجورج براسنس وكلود نوقارو وجاك بريل - التي تبقى مفخرة فرنسا الأدبية والفنية والحضارية الأكبر من كل التخندقات الإيديولوجية بحكم مخاطبتها الإنسان كإحساس، وليس كأفكارفقط وكان سلاحها الإيقاع والصور الشعرية والخيال والحلم والقيم الجامعة، رغم أنف كل أنواع الإيديولوجيين. فيرا رفض النجومية والأضواء الباريسية والبزنسة الفنية وطلق الأوساط الغنائية في مطلع السبعينيات وعاش في قريته الوديعة بمحافظة الأرداش محاطا بالآثار والأشجار والبساتين والطيور والزهور، وببسطاء ريفيين يبكون عليه اليوم بحرقة ومرارة فاقد أعز وأحب الناس. كل أبرز ممثلي الطبقة السياسية الفرنسية عبروا عن تأثرهم برحيل مبدع فوق كل الخلافات والصراعات عشية انتخابات جهوية لا تهم نسبة كبيرة من الفرنسيين الذين سيتفرغون أكثر لتوديع وتكريم رمز بلدهم الإنساني والفني والحضاري، بعيدا عن صناديق خالية من روح وعذوبة وشعرية وصدق فيرا.