ما زالت الأزمة الاقتصادية بفصولها البنكية والمالية، من انهيار بنك ليمان براذرز في خريف العام 2008، إلى الإفلاس المالي في اليونان مؤخراً، تحدث مفاعيلها، وتترك تداعياتها في العالم، سواء سلباً بما خلّفته من الضرر على المصالح والمصائر، أو إيجاباً لكونها شكّلت فرصة لإعادة النظر، ليس فقط في السياسات المالية والبرامج الاقتصادية، بل أيضاً في نظام العالم وسيره جملة. والأزمة هي مركّبة وملتبسة، بقدر ما تتداخل فيها العوامل والأبعاد على غير مستوى وصعيد. بالطبع، هي أزمة مالية بنكية في محتواها وظاهرها، كما يتمثل ذلك في تراكم الدَّين أو العجز عن تسديد القروض، أو في نقص الأموال وفقدان السيولة؛ وكل ذلك يرتدّ ضرراً على الوضع الاقتصادي والسياسي جملة، هبوطاً في النمو أو عجزاً في الميزان التجاري، أو سوى ذلك. وقديماً قال ابن خلدون إن نفاد الأموال يؤدّي إلى انهيار الدول والحضارة. ومن المفارقات، في هذا الخصوص، أن تكون هناك أزمة سيولة مالية، في عصر سمتهُ السيولة في المعطيات، من العلامات والرموز والأرقام، التي تنتقل بسرعة البرق والفكر من مكان إلى آخر في أرجاء الكوكب. ولكن الأمر يتعدّى الاقتصاد إلى ما عداه. فالأزمة ترتبط بالواقع الكوني الناشئ عن ثورة المعلومات والاتصالات، والذي أدى إلى طغيان رأس المال المالي، وفتح المجال واسعاً للتجارة الإلكترونية التي هي شكل التبادل الجديد في هذا الزمن الفائق والمتسارع. ولكن التجارة نشاط اقتصادي ملحق بالصناعة والزراعة، فإذا ما طغى وتجاوز حدّه، أدّى إلى فقدان المال. هذا شأن التجارة العادية، القائمة على نقل السلع المادية، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بالتجارة الافتراضية التي تقوم بنقل السلع الرمزية عبر الأثير؟ عندها يصبح إمكان التلاعب والغش أكبر بكثير، لجني ثروات من غير جهدٍ، وبصورة غير معقولة ولا مشروعة. والحصيلة هي انهيار الفراديس البنكية كما سمّوها، بما يشبه بيع رجال الدين صكوك الغفران للمؤمنين قبل اليوم الموعود في جنة الفردوس. هناك، من جهة ثانية، العامل السياسي، كما تُرجم ذلك في تخلّي الدول والحكومات عن دورها في التدخل تنظيماً وترشيداً أو حماية ورعاية، بترك الأمور للسوق الحرّة تمارس نشاطها بالتفلت من كل ضابط أو معيار، ما جعل الدول في خدمة الشركات والقطاع الخاص. من هنا، فإن الأزمة المالية الرّاهنة حملت الدول على استعادة دورها في الإدارة والتدبير؛ دون أن يعني ذلك العودة إلى مذهب الاقتصاد الموجّه، كما كان الأمر في العالم الاشتراكي الذي أخفق نموذجه الاقتصادي. فلا تنمية من غير مبادرة حرّة، تماماً كما أنه لا ليبرالية من غير حدود. هناك من جهة ثالثة، عامل أخلاقي منتج للأزمة، يتمثل في الجشع الذي يحمل رجل الأعمال على التصرّف بعقل فردي، لجهة تكديس الأموال بأي ثمن؛ أي على حساب المنطق الجمعي التضامني، وما تقتضيه الشراكة في وطن أو مجتمع، بل في المصائر. هناك من جهة رابعة، العامل الفكري، كما يتجسّد في النظريات المستهلكة في المقاربة والمعالجة، أو في نقل نماذج ناجحة في بيئة معينة إلى بيئة أخرى، دون تعديل أو تحويل. هذا ما اعترف به علماء اقتصاد كالأمريكي بول غروكمان، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2008، إذ فسّر الأزمة المالية الراهنة، بفقدان النظريات والنماذج الاقتصادية الساندة لمصداقيتها، في الفهم والتشخيص أو في الإدارة والتدبير. وهكذا، فالعامل الفكري أساسي، في الحياة والموت، وفي الإغناء والإفقار. وذلك يتوقف على الطريقة التي تُصرف بها الطاقة العقلية والحيوية الوجودية. فالمعرفة والثراء والنماء والازدهار، أمور تحتاج إلى أن يمارس الواحد تفكيره بصورة حيّة، منفتحة، متحركة، مبتكرة.. وهذا يعني شيئين؛ الأول أنه لا نظريات نهائية أو حتمية في واقع متحرك وعالم متسارع، فالأفكار الخصبة قد تستهلك، ولذا فهي محتاجة إلى التعديل والتطوير أو إعادة البناء والتركيب. الثاني أن النماذج الناجحة في مكان، تحتاج إلى التحويل الخلاّق لكي تنجح في مكان آخر. وبالطبع، هناك العامل الثقافي في فهم الأزمة وتدبّرها، كما يتمثل في أنماط الاستهلاك وأساليب العيش وقيم العمل.. وملخص المسألة هنا: هل ما يجمعه المرء من ثروات، يصل إليه بالجهد والجدارة والاستحقاق؟ هذا سؤال يطرحه الناس والخبراء في معرض تشخيص الأزمة، ومن الشواهد على ذلك المناقشات التي دارت حول مديونية الدولة في اليونان. لقد طلب من الألمان، الذين هم الأغنى والأقوى، في الاتحاد الأوروبي، أن يدعموا شركاءهم. ولكنهم احتجوا ورفضوا أن يكونوا “البقرة الحلوب” التي عليها أن تسد العجز، بدعم بلدان أخرى يعمل أهلها بمعدل أقل من المعمول به في ألمانيا. ولكن المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، التي رفضت في البداية تقديم المساعدة، عادت ووافقت، لأن ألمانيا لن تبقى غنية أو قوية في أوروبا ضعيفة أو فقيرة أو منهارة. ومع ذلك، فإن هذا الشاهد يعني أنه ما عاد ممكناً أن يعيش المرء عيشة الكسل أو الرفاه أو الترف البالغ، أي بما يفوق قدرته، وهو لا يبذل ما يقتضيه ذلك من الجهد والعناء، وربما المعاناة. ولهذا فكّر الفرنسيون في إطالة مدة العمل، وذلك برفع سن التقاعد من 60 إلى 62 عاماً كما كانت. وإذا كانت الأزمة قد طالت بشظاياها العالم كله، فإنه من حسن الحظ أن الدول الناشئة، كالصين والهند والبرازيل وتركيا، وسواها من البلدان التي باتت قوى اقتصادية عالمية، والتي تستخدم نماذج في التنمية تجمع بين حب العمل والتقنيات الفائقة، قد شكلت سدّاً منيعاً أمام الانهيار الشامل. وهذه واحدة من فضائل تعدّدية الأقطاب والنماذج في مواجهة الأزمات. فالأحادية السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية، مآلها الجمود والانحطاط أو الكارثة والانهيار. أخلص من ذلك إلى أنه لا مجال لمعالجة الأزمة، إذا استمر البشر يعيشون على الوتيرة نفسها من الإنتاج الفاحش والاستهلاك الوحشي، في مختلف مجالات حياتهم وأنشطتهم.. وهناك الكثير من الأمثلة المتنوعة، التي تشهد على أننا ننخرط في نمط من الاستهلاك، مآله الغش أو الهدر أو العجز أو الكارثة. من هنا يحتاج تدبّر الأزمات إلى ثقافة مختلفة؛ خلقية، اقتصادية، سياسية. بقلم : علي حرب كاتب ومفكر لبناني