ليست هذه هي الأزمة الأولى التي تعرفها تونس الشقيقة، لكن أزماتها السابقة كانت عبارة عن "هوشة" أو عركة سياسية بين أجنحة النظام سرعان ما كان يتم احتواؤها من طرف أقوياء النظام ويتخلصون من الضعفاء ويواصلون السير. لكن هذه المرة الأمر كان مختلفا.. فقد نزل الخلاف إلى الشارع الذي ألهبه بنزين المظالم والفساد أتذكر أنني قمت في سبتمبر 1971 بتغطية المؤتمر الثامن للحزب الدستوري التونسي الذي تحول في عهد بن علي إلى الأرسيدي. كان الخلاف في ذلك المؤتمر (الذي عقد تحت شعار مؤتمر الوضوح) بين الراحل بورڤيبة وبقايا أحمد بن صالح في النظام التونسي على أشده.. وخاصة مع مجموعة أحمد المستيري. وأتذكر أن الرئيس بورڤيبة بكاريزمته عمل على عقد المؤتمر في مسقط رأسه المنستير.. ولكن هذا لم يمنع أن يتعرض بورڤيبة إلى حساب عسير.. جعله يجهش بالبكاء في خطاب الافتتاح أمام المؤتمرين. كنت وقتها ما زلت أحبو في عالم الصحافة.. وسألت المرحوم شريف بلقاسم الذي كان يرأس الوفد الجزائري: لماذا أجهش بورڤيبة بالبكاء، رغم أن كل من في القاعة وقف له مصفقا؟! فقال لي: اسأل أحمد المستيري.. ورحت أبحث عن المستيري بين الحضور.. وعندما تمكنت من الوصول إليه وسألته نفس السؤال الذي طرحته على شريف بلقاسم.. قال لي: غدا صباحا ستعرف السبب عندما تسمع تدخلي في المؤتمر! لكن عندما تدخل أحمد المستيري تم إخراج الصحافة من القاعة وتم قطع مكبرات الصوت في الخارج حتى لا نعرف ما يقول المستيري لبورڤيبة وللمؤتمرين. كان الحزب الدستوري التونسي (الأرسيدي حاليا) يعرف مناقشات سياسية قوية وحادة.. وهذه الحيوية السياسية في الحزب هي التي جعلته في ذلك الوقت ليست له مشاكل مع الشعب، بل بعض المناضلين لهم مشاكل مع نزعة الاستبداد والفساد التي بدأت تطل برأسها.. وكانت النقاشات سياسية بامتياز وتتعلق في جلها بالمسالك السياسية التي يتعين على تونس أن تسلكها لبناء تونس. ولم تكن تلك النقاشات تتمحور حول الاستئثار بالسلطة وحماية الفساد كما حدث الآن ويحدث. وأذكر أنني اتصلت بأحد المغضوب عليهم وهو من رفاق بورڤيبة في الكفاح الوطني من أجل الاستقلال.. وأحد رفاق صالح بن يوسف.. واسم هذا المعارض التونسي "تريكي".. وقد أخذني إلى بيته خلسة ابنه الصحفي عمر التريكي الذي كان يشتغل في وكالة الأنباء التونسية.. وذهبت وحدي إليه لأن الزميل عيسى عجينة الذي كان يمثل جريدة الشعب لم تعجبه فكرة الحديث مع رجل في المعارضة.. وتحدثت إلى المناضل تريكي ووضعني في صورة ما يحدث في الحزب. كان اسم جريدة المجاهد التي كنت أمثلها آنذاك في المؤتمر يرنُّ كثيرا في أسماع المناضلين التوانسة سواء في الحزب الحاكم أو في المعارضة المغضوب عليها.. كان اللقاء مغامرة صحفية مني. كان بن صالح قد دخل إلى الجزائر هاربا وأراد بورڤيبة استبداله مع الهواري بومدين بالطاهر الزبيري، لأنه هرب إلى تونس هو الآخر سنة 1967 بعد أحداث العفرون. ولكن بومدين رفض المقايضة قائلا لبورڤيبة: إن بن صالح أهم من الطاهر زبيري! كانت هذه الأجواء تسيطر على العلاقات بين تونسوالجزائر.. واستقبل بورڤيبة رئيس الوفد الجزائري وكامل أعضاء الوفد في قصر المرمر بالمنستير والذي دفن فيه فيما بعد. وكنت بينهم. ووقفت في الصف الثاني خلف المرحوم شريف بلقاسم بصالون كبير ودخل علينا الرئيس بورڤيبة.. وجاء من آخر الصالون يسعى نحونا.. فقال شريف بلقاسم متمتما.. إنه عجوز وما زال شادا.. وكان عمر بورڤيبة آنذاك أكثر من 65 سنة، ثم سلم عليه وعانقه مرددا عبارة الإطراء الديبلوماسي التي لم أتعود أنا عليها بعد كشاب صحفي.. ومنها أخذت أول درس في النفاق السياسي، الذي يحدث بين السياسيين. قال بورڤيبة لشريف بلقاسم: بلغ الرئيس بومدين بأن بن صالح ليس بالاشتراكي الحقيقي.. وأنه ورط تونس فيما لا طاقة لنا به.. وتحدث عن مؤتمر الوضوح.. وقال إنه يريد تشبيب الحزب واستعمل عبارة بالفرنسية "لابد من أن يعرف الحزب مجرى الهواء" كي تتم تنقية الأجواء داخل النظام. وبعد ذلك بسنوات حضرت المؤتمر العاشر للحزب الدستوري الذي انعقد في تونس العاصمة في قاعة قرب نزل البحيرة عند بداية شارع بورڤيبة. كانت الجزائر قد بدأت تتحدث عن بناء طريق الوحدة الإفريقية العابر للصحراء.. واستقبل بورڤيبة رئيس الوفد الجزائري محمد شريف مساعدية.. وكان وحده.. قاله له: إن تونس تريد من الجزائر أن تعتبرها دولة إفريقية وتقوم بربطها بالطريق الصحراوي الذاهب إلى إفريقيا.. وردد هذا الكلام الهادي نويرة الوزير الأول آنذاك. ما أريد قوله من هذه الاستحضارات من الماضي هو أن الحزب الدستوري التونسي كان يقوم بتطهير نفسه بانتظام من الأدران السياسية، لهذا لم تكن له مشاكل مع الشعب.. بل كانت مشاكله دائما بين الأجنحة في داخل الحزب والنظام.. إضافة إلى أن بورڤيبة حافظ باستمرار على حد أدنى من عدم التدخل بين الحزب والدولة.. ولكن هذا التداخل بين الحزب والدولة أصبح فاضحا في عهد بن علي وتدعم أكثر بالفساد الذي استشرى في أجهزة الدولة.. تماما مثلما فعل الشاذلي بالأفالان بعد بومدين وأدى الأمر إلى أحداث أكتوبر. وتونس الآن تعيش نفس أحداث أكتوبر الجزائرية.. بل وتعيش حالة ثورة أجهزة النظام والشعب على النظام.. ولكنها لم تتبين بعد الطريق الذي ستسلكه للخروج من الأزمة. وقد تعمد إلى اتخاذ إجراءات تجعلها تقع في نفس الأخطاء التي وقعت فيها الجزائر بعد 5 أكتوبر.. لكن العاجل الآن هو البحث عن شخصية تحقق الإجماع الوطني لتكون البديل للراحل بن علي.. هذا هو الموضوع اليوم في تونس.