في آخر طلعاته على فضائيّة عربيّة، خاض إبراهيم الكوني، الروائيّ الليبي الأشهر في محظور السؤال كالعادة، في وطن عربيّ مازال يهيل التّراب على المعقوليّة بحماقة نادرة. وسما الكوني في معارج الكينونة يقرأ الوجدان بقسوة العقل وبرقّة الفنان، سائحا يلملم آفاق الصّحراء -الصحراء الموضوع الأثير والأمير معا- وظلّ يكتب الرحابة بمحدود اللّغة، ولكن بمطلق الإحساس الموغل في العراء كقيمة فارقة للصحراء وعلامة خافقة للتجرّد المتسامي. حسب الكوني أن يكون أو يكاد الكاتب العربيّ الأوّل الذي كتب الصّحراء في مجمل أعماله جاعلا الرمل أيقونة الوجود، لكن الأصحّ أن الصحراء هي من تكتبه وتجدّده وتبهر به في الزمان وفي المكان. إنه يحتفل ويحتفي بها يسائلها ويغازلها ويعصر من وحشيتها الناعمة أسئلة مخملية تغري وتتمنّعُ ولا تمنحُ وصلها إلاّ لمن كابد جوهرها العصيّ. إنه يبعث في الروح شهوة التأمّل.. ذلك التأمّل الذي يكسر قواعد التنميط والقولبة والجاهز من الحكم، محتكما إلى الإنسان كقضيّة وجود وهويّة وتطلّع لا يهدأ. أليس هو الإنسانُ العربيّ المفقود أو الغائب أو المغيّب. إنسانٌ يتخطّفه تيهٌ وحشيٌّ لا يلوي عليه شيءٌ مطوّحا به في أتون الانطباع العاطفيّ والانفعال العابر للوعي. والكتابة هاهنا وبهذا الإصرار على المسائلة والتجاوز هي رحلةٌ تنهد إلى سدرة المطلق البصير والمبصّر بما يجب أن يكون.. ثورةً عالمة ناعمة على ما ساد وطغى ودروش الإنسان العربيّ. لا يمكن اختصار الكوني بمحدود الحروف، فلا غرو إنه كون من العوالم والأسئلة. إنه الكوني الروائي الذي أهداه كبيرنا الكبير الراحل الطاهر وطار ñمن آخر قلاع النضال الأدبي والموقف الحرّ في الجزائر- آخر ما كتب: "قصيدٌ في التذلّل". لعلّ أهمّ الذي استوقفني في اللقاء الطافح بحكم وأحكام الكوني قولُه: "عندما تكتبُ باللغة العربيّة، فإنّك بلا شكّ تمارس فروسيّة استثنائيّة". أيّة فروسيّة يتحدّث عنها الكوني وهو الكاتب الذي ينحت لغته كأحسن ما يكون النحت، فقد كانت لغته إضافةً شكّلت فتحا من فتوحات الرواية العربية المعاصرة. الكوني بذلك يقول إن اللغة موقف بطوليّ حافلٌ بالرجولة والأصالة والحريّة. أليست الفروسيّة فضاءً تجتمع في جنّاته آياتُ الحقّ والجهر والانطلاق والتحليق والقوّة والشهامة والجمال، هكذا تغدو الكتابة موقفا ويكبر الموقف باللغة العربية، الموقف الذي لا يمكن أن يكون سيّدا إلا إذا استدعى مجاميع العقل البصير ولوّح بشجاعة بقضايا الإنسان تخليصا له من الردّة والجاهليّة والعاطفيّة العمياء والاستكانة البلهاء للميتافيزيقا كمرادف ورافد للدّروشة والعبث في زمن عربيّ عبثيّ بامتياز ترك الدّهماء تقود وتوارى الكاتب في ظلّ الصمت يراود حلم اللّغة الفارسة.