يحمل التطور التكنولوجي الحاصل في العالم، والدخول في مجال العولمة، عديد الإيجابيات التي لا يمكن إنكارها، سواء تعلّق الأمر بالصناعة الحديثة أو تكنولوجيات الإعلام والاتصال التي حوّلت العالم إلى قرية صغيرة وسهّلت التواصل بين الناس عبر مختلف أنحاء العالم والتحدث عن كل هذه الإيجابيات يذهب بنا إلى البحث عن مدى تأثيرها على مستوى المجتمعات الصغيرة وخاصة المجتمع الجزائري، وعليه سنحاول استعراض انعكاس هذه التطورات على العائلة الجزائرية. كانت الأسرة الجزائرية في زمن ما قبل الثورة التكنولوجية تجتمع في وقت العشاء حول المائدة وهي تتابع نشرة الأخبار وتتبادل أطراف الحديث، وتتناقش حول الأخبار، ثم بعد ذلك تنتظر فيلم السهرة، والذي غالبا ما يكون فيلما محليا تستمتع كل الأسرة به، وتقضي سهرة مسلية وهي تحتسي الشاي، وهي صورة من الزمن الماضي يصعب استرجاعها أو حتى تخيّلها حاليا، ففي الوقت الحاضر لا تلتقي الأسرة مكتملة على العشاء إلا نادرا أو إذا كانت هناك مناسبة، فوقت العشاء هو وقت المسلسل عند البنات، فيدخلن إلى غرفتهن وربما من جاعت تأخذ بعض الأكل إلى الغرفة، وهو وقت المباراة أو الأنباء بالنسبة للأب فهو في الصالة يتابع، أما الشباب فهم قلّما يدخلون إلى المنزل في هذا الوقت كما روت سليمة 21 سنة “لا يوجد وقت معين تجتمع فيه العائلة يوميا، فتقريبا لا يتوافق برنامجنا مع بعضنا البعض، إلا إذا كانت هناك مناسبة، فإننا نضطر للجلوس مع بعض على طاولة العشاء، وغالبا ما يكون ذلك مجاملة لصاحب المناسبة، فلا يوجد أي برنامج أو هواية مشتركة بيننا، فنحن مختلفون في الذوق في كافة الفنون والبرامج”. في حين تحسّرت السيدة باية على أيام زمان، فهي تُلقي اللوم على الفضائيات والأنترنت ومختلف وسائل الاتصال الحديثة في تشتيت أسرتها. “دار جدي” في مهب الريح لطالما كانت الأسرة الجزائرية متميزة بتماسكها واحتفاظها ببيت العائلة الذي يضم العائلة الكبيرة التي تمتد من الأجداد إلى الأحفاد، فبيت العائلة أو “دار جدي” كما اعتدنا تسمتيه هو رمز من رموز صمود الأسرة الجزائرية، ولكن انفتاح العائلات الجزائرية على الثقافات الأجنبية من خلال الفضائيات والأنترنت، أحدث لديها تغييرا في منظورها إلى العائلة وخاصة التواجد الكلي في بيت واحد، وأصبحت ترى أن الحياة المثالية تكون في الاستقلالية حتى بالنسبة لغير المتزوجين، وهذا ما أحدث تغيرا على مستوى تركيبة المجتمع الجزائري، فنجد أن البيت مهما اتسعت مساحته فإنه لا يُبقي بين جدرانه سوى الأب والأم، فالكل أصبح يقرر الرحيل والاستقرار في بيت خاص بحجة تفادي المشاكل، التي نتساءل أين كانت في الماضي عندما كان يجمعهم بيت واحد؟! هذا الأمر أخذ أبعادا حقيقية خاصة إذا تعلق الأمر بزوجة الابن، فهي أصبحت لا تتزوج إلا ممن لديه سكن خاص، كما جاء على لسان العديد من البنات مثل فوزية 25 سنة، التي قالت “لا أحبّذ فكرة السكن في بيت العائلة، فهذا يجعلني مقيّدة ويشعرني وكأنني في الثكنة”، وهو الرأي الذي قاسمته معها “حسنة” التي أكدت أنها إذا لم تجد من يمتلك سكنا خاصا فهي تفضّل العنوسة على مشاكل بيت العائلة، الذي يوحي إليها بالرجعية!! كل هذه الأفكار ورّدتها لنا المجتمعات الأجنبية عبر وسائل الإعلام، فهي غريبة البتّة عن مجتمعنا الإسلامي والمحافظ. ومن جهته، الحاج أحمد 65 سنة يقول في هذا السياق “إن العائلة الجزائرية بدأت تتشتت منذ بداية هبوب رياح التطور والعولمة، فعلى حد رأيه كل ثنائي على وشك الارتباط يحلم بحياة خاصة بعيدا عن العوازل، ويتخلى بكل سهولة عن العائلة، فالشباب فقدوا الإحساس بقيمة العائلة وتماسكها، وأصبحت علاقاتهم بعائلاتهم مجرد مكالمات هاتفية!!”. وفي ذات الموضوع حدثنا السيد نجيب عن أهمية العائلة الكبيرة، في حين أرجع أسباب التشتت واختفاء بيت العائلة إلى أزمة العقارات، ووسط هذا وذاك لا زلنا نحنّ إلى “بيت العائلة” ولو عبر وجوده كرمز، فلربما نستعيده يوما ما؟!! تغير في مفهوم الضروريات والكماليات تختلف الضروريات والكماليات لدى الأسرة الجزائرية حسب المستوى المعيشي والقدرة الشرائية لكل واحد، ولكن ما لا يختلف عليه اثنان هو أن الأسرة الجزائرية كباقي الأسر لا غنى لها عن المأكل والمشرب والمبلس، حيث كان ربّ العائلة يرى أنه من الضروري اقتناء جهاز تلفاز، طباخة، مدفأة وثلاجة، كل هذه الأجهزة المنزلية التي لا بد من وجودها في أي منزل، أو بالأحرى هي الوسائل الضرورية للمعيشة، وكل ما زاد عن ذلك هي كماليات تعتبر من وسائل الرفاهية والمتعة. ولكن في الوقت الحالي أصبحت البيوت الجزائرية بدءا من الأسرة المتوسطة، لا تستغني عن وجود آلة الغسيل، المكيف الكهربائي، الهوائي المقعر، الكمبيوتر والأنترنت، وكل أجهزة الطبخ، فقد غدت من الضرويات لدى الأسرة الجزائرية في 2011. وفي هذا السياق، أوضحت السيدة ليندة أن أي سيدة اليوم لا تستغني عن الغسالة والمكيف في بيتها، كما أصبح الكمبيوتر بالنسبة لأبنائنا جد ضروري، وبالتالي لا بد من توفيرها. وعلى حد قولها كل شيء أصبح متوفر في السوق، وذلك نظرا للحركية الصناعية والاقتصادية، وابتداع طرق حديثة كالبيع بالتقسيط بالإضافة إلى القروض المصغرة التي تمنحها البنوك. وعليه، فالكل يستطيع توفيرها. وفي نفس السياق، قال فوضيل، المقبل على الزواج هذا الصيف “أنا جهزت بيتي بكل الضروريات المتمثلة - على حد قوله - في الغسالة، الطباخة، الثلاجة، المكيف، المدفأة وكل آلات الطبخ”.. حتى جهاز التلفاز يجب أن يتوفر في كل غرفة، فكل فرد من أفراد العائلة لديه ذوق مختلف في المشاهدة، وهذا يدعونا إلى التساؤل عن الكماليات إذا كانت كل هذه ضروريات؟! ثقافة العطلة والسياحة التعاطي مع مختلف وسائل الإعلام جعل المواطن الجزائري يتعلق بها ويخضع بصفة تدريجية للتأثيرات التي تحدثها باستعمال عديد المؤثرات التي يأتي في مقدمتها الإشهار، الذي ورّد للعائلات الجزائرية أفكار جديدة عن العطلة، خاصة فيما يتعلق بالأطفال الصغار والأماكن الجميلة التي تستهويهم، فأصبح أولادنا يحلمون بها ويطلبونها دائما. ونتيجة لذلك، وبعدما كانت العطلة فرصة لزيارة الأقارب والعائلة، أصبحت مدن الملاهي والغابات والحدائق والشواطئ هي الوجهة الجديدة للعائلة الجزائرية في أيام العطلة. وفي هذا الموضوع، استوقفنا بعض الأفراد من أجل معرفة سبب هذا التغيير اللافت للانتباه، فكانت البداية مع السيدة خديجة التي قالت “إن الأولاد أصبحوا يطلبون الفسحة والتنزه، لذلك أصبحنا نخصص لهم عطلة نهاية الأسبوع من أجل الراحة والاسترخاء بعد أسبوع كامل من الدراسة والتوتر والتركيز”. أما السيد علي فقال “إن الحياة تغيّرت وأصحبنا نرغب في الحياة بطريقة أفضل ككل المجتمعات الأخرى”، لذلك فهو يخصص عطلته سواء الأسبوعية أو السنوية، في السياحة والتنزه، لمحاولة الترفيه عن الجميع ومحاولة تناسي أعباء الحياة. وفي سؤالنا عن حظ الأقارب والعائلة من هذه العطلة، فقال “إنه بالإمكان الاطمئنان عليهم بالهاتف..”، بينما يرى أن الألولوية لعائلته الصغيرة. وفي حديثنا عن العطلة السنوية، تبيّن لنا أن العديد من الأسر الجزائرية أصبحت تخصصها للتخييم والسياحة، وهو أمر لم يكن منتشرا بهذه الطريقة في الماضي، فنجد أن صور المدن السياحية الجميلة التي تروّج لها الومضات الإشهارية، أيقظت الرغبة في الرفاهية والمتعة لدى العائلة الجزائرية، الأمر الذي أدى إلى انتشار هائل في عدد الفنادق والمركبات السياحية العائلية والإقبال عليها بكثرة. الأعراس والاحتفالات على الطريقة الحديثة التكنولوجيا الحديثة طالت حتى أعراسنا وغيّرت في طريقة احتفالنا بهذا الشكل اللافت، وذلك انطلاقا من الدعوة التي كانت في الماضي تتم بزيارة العائلات في بيوتهم ولكن مع التكنولوجيا أصبحت الدعوات تتم عبر مكاملة هاتفية أو SMS، أو حتى إرسال بطاقة الدعوة وذلك مع اشتراط عدم إحضار الأطفال، والسبب أصبح معروفا فالعرس أصبح يتم في “قاعة الحفلات”، حيث إن العائلات الجزائرية تخلت عن السطح و”الباش” واستبداله بقاعات فاخرة يمكن أن يصل سعرها إلى 200.000 دج لمدة لا تتجاوز الست ساعات، ويحيي الحفل مغنيين أو “DJ” فالمسامعيات والدربوكة فقدت مكانها في العرس الجزائري، وكل أسرة أصبحت تستعرض قدراتها المالية في العرس من خلال فخامة القاعة، الحلويات، حتى علب الحلوى أصبحت محل منافسة بين العائلات، أما “التصديرة” فحدّث ولا حرج، فعلى الرغم من غنى تراثنا وتقاليدنا، لا تستغني العروس عن اللباس الهندي والتونسي،.. والتي تعتبر من أكبر مظاهر التغيير والتبذير، حيث إن العرس الجزائري أصبح فضاءً خصبا للتباهي وتقليد للأجانب وفقط من أجل التباهي والظهور بصورة متحضرة ومواكبة التطور، فتخلت الأسرة الجزائرية عن عادتها العريقة. وفي ظل التغييرات الراهنة لا يسعنا سوى التساؤل إلى أين أيتها العائلة الجزائرية وماذا بعد كل هذا؟