بعيدا عن مناقشة تفاصيل صارت أكثر من الهم على القلب في جزائر المعجزات، لعل أوجعها زيارة الشاعر المغربي الكبير محمد بنيس إلى الجزائر عن طريق المركز الثقافي الفرنسي بالجزائر ليكون فارس "ربيع الشعراء"، وهو الذي يصرح في جريدة "الخبر" في حوار مع الزميل القاص علاوة حاجي أنه يرفض "أن تكون له أيّ علاقة بالمؤسسات الرسمية العربية وغير العربية"، مضيفا أنه "يرفض أيّ جائزة تُمنح له من طرف الأنظمة العربية"، في ظل حالات القصور الفكري والعقلي والوجداني أتساءل: كيف يستقيم ما ذهب إليه بنيس في ميزان الحق والمنطق ؟ يقبل على المركز الثقافي وهو مؤسسة رسمية فرنسية ويرفض أن يقيم علاقة مع المؤسسات الرسمية العربية ؟ ولسنا ها هنا لنقيم أو لنقوم ما يقوم به المركز الثقافي الفرنسي في الجزائر، ولا نحجر عليه في أن يقيم نشاطات من مطلع "الفجر" حتى هزيع الليل الأخير، لأننا نعرف جيدا قيم الحرية ونعرف جيدا ماضي محترفي اغتصاب الحريات، ومع هذا وذلك فإنه من حقنا أن نطالب بنقطة نظام من حين لآخر نستفهم عن أشياء تفوح منها رائحة السياسي نهارا جهارا، وإن كنت من القائلين إن الثقافي هو جوهر السياسي خاصة مما يأتي من فرنسا التي لم تهضم بعد استقلال الجزائر منذ 50 عاما، فرنسا التي لم تكن تريد نهب خيرات البلد وإنما مسخ الذات الجزائرية وتذويبها في العبودية والتبعية، وها هي في وقاحة مزمنة تمجد جرائرها وجرائمها بل وتستعد للاحتفال بذكرى خسارة الجزائر السنة المقبلة على أشنع ما تكون السريالية. فرنسا التي تقود اليوم العدوان الصليبي الحاقد والغاشم على الشقيقة ليبيا في عملية عسكرية من أقذر التدخلات الاستعمارية في هذا الزمن دون أي شعور بالخزي أو العار طالما أنها لا تضرب بيدها فحسب وإنما بمؤخرات بعض الأنظمة العربية المارقة عن دينها وعن لغتها وعن بقايا الرجولة والشرف. أعود إلى شاعرنا الكبير محمد بنيس ولا شك أنه من أهم الأصوات الشعرية في خارطة الشعر العربي المعاصر لأبحث فيما جاء به لعلنا نقف على الرشد المغيب عنا منذ ابن رشد، وبقدر أهميته كصوت حداثي متأمل تكون الإرباكات التي تحدثها آراؤه ومواقفه فحق لنا التساؤل والاعتراض معا. بنيس وعن سؤال "الثورات العربية البلهاء" قال "عاش المثقّف في العالم العربي، بصفة عامّة، هذه الثورات الشعبية بدهشة وحماس كبيرين، وكلّ من أعرفهم، ومن الكتابات التي اطّلعت عليها، كانوا إلى جانبها، وهو ما أعتبره طبيعيا، لأننا كنّا نحلم بهذه الثورة منذ الستينيات. بل إننا لم نحلم فقط، كنا نشتغل في هذا الأفق الذي يحرّرنا من جميع القيم المضادة للحرية والإنسانية، وهذا الجيل يصنع اليوم ثورته في مصر وتونس، والثورة تتحقّق في كل بلد عربيّ بصيغة أو بأخرى إنها هدية الشبّان لجميع الأجيال العربية، وأنا متأكّد أنها ستغيّر العالم العربي تغييرا جذريا، وستغيّر علاقتنا بالعالم، وعلاقة العالم بنا". جواب بنيس يعيد من جديد وعلى نحو آخر سؤال المثقف العربي، أو سؤال جدوى المثقف العربي، سؤال النضال، سؤال القضايا، سؤال فكر ما بعد الكولونيالية، سؤال علاقة المثقف بالسلطة، وأسئلة أخرى تتناسل بخرافة، لعل البهلوانية التي سقطت فيها الاحتجاجات العربية التي لقبت بالثورات كانت نتيجة تخلي المثقف العربي عن دوره الرائد والراشد مع أن الثورات تاريخيا تقودها النخب على تنوعاتها الفكرية. حدث المحظور وسال الدم العربي لأن المثقف العربي صار آخر من يعلم وك"الأطرش في العرس" فتصيبه "الثورة" بالدهشة لأنه من زمان تخلف عن القضايا المصيرية وارتهن في الصفوف الأخيرة من الجماهير يغازل فكرة ما، أو يتعالى عن الناس لأنهم همج رعاع، أو هو في الغالب الأعم جزء من السلطة كما يقول ميشيل فوكو ومن ثمة لا يتخلف عن أداء دوره الدعائي والتبريري والتنويمي كأحسن ما يكون هز البطن. شاعرنا بنيس يرى في هبة الشباب هدية ستغير العالم العربي وتغير علاقة هذا الأخير بالآخر، ولا أظن أن شاعرنا الجميل مهتما بهذه الهدية طالما أنه وقع قطيعته كما يقول مع مؤسسات الأنظمة العربية ورمم علاقته بالآخر كأحسن ما يكون الترميم وربيع الشعراء لدليل كالشمس في ضحاها أن المثقف العربي قد تسربل بالخريف ولم يعد مهتما بما قد تحمله الشتاء من بروق ورعود ولكن علينا أن نتذكر أن "الطمأنينة دناءة روحية"، أو هكذا قال تولستوي.