ديب قامة كبيرة.. وخلافي مع بوجدرة أصبح من الماضي يعتقد الشاعر المغربي، محمّد بنّيس، أن المثقّف العربي فوجئ بالانتفاضات الشعبية التي اشتعلت في عدد من الدول العربية، معتبرا أن المكان الطبيعي للمثقّف هو مع إرادة شعبه. ونفى بنّيس، الذي التقت به ''الخبر'' على هامش احتفالية ''ربيع الشعراء'' بالمركز الثقافي الفرنسي بالجزائر، أن تكون له أيّ علاقة بالمؤسسات الرسمية العربية وغير العربية، مضيفا أنه يرفض أيّ جائزة تُمنح له من طرف الأنظمة العربية. هل أنت متابع للحركة الشعرية الحداثية في الجزائر؟ الشعر الجزائري قريب منّي، بل إنه جزء منّي ومن ثقافتي. وقد حاولت منذ فترات طويلة أن أتتبّع ما يجري في الجزائر من الناحية الشعرية والأدبية، لكن بعض الأشياء الجديدة لا تصلني بسهولة، وهو أمرٌ مؤسف لأننا بلدان قريبان، ومع ذلك التفاعل بيننا ليس بمستوى ما نحلم به. فكثير من الأسماء أتعرّف عليها إما من خلال مجلات وصحف مشرقيّة أو من خلال بعض الصدف التي تجمعني بأصدقاء جزائريين، خارج الجزائر، إما في المغرب أو في أوروبا. ما يهمني دائما هو أن أتتبّع النبض الشعري في الجزائر، وأقترب من الأسئلة التي يطرحها الشاعر الجزائري في هذا العصر، وكيف يعيد صياغة الحياة التي يعيشها. لديك خلافات مع بعض الكتّاب الجزائريين، كالروائي رشيد بوجدرة. هل مازال خلافكما قائما اليوم؟ ما أشرت إليه هو جزءٌ من التاريخ. اليوم نحن في عالم مختلف وهناك قضايا أخرى، ومن الأحسن أن يتفرّغ الأصدقاء الجزائريون لأشياء أهمّ، ولنترك الماضي للتأمّل الفكري، حتّى نستخرج منه الجانب الإيجابي. لا ينبغي على الإطلاق أن نقوم في العمل الثقافي بأي فعل تدميري، بل يجب أن نأخذ الأمور بهدوء، ونفكر فيها، دون تنازل نعم، ولكن بهدف خلق مستقبل إيجابي. حدّثني عن علاقتك بالأديب الراحل محمّد ديب، الذي رفعت له نصّك ''نوافذ من تلمسان''؟ لم تربطني علاقة شخصيّة بمحمّد ديب، إنّما هو كاتب كبير وأحببته دائما، وعندما توفّي كان هذا النصّ تحيتي له، لأنه قامة أدبيّة كبيرة من الجزائر. وقد جاءت القصيدة بتلقائية، وفيها عودة إلى تلمسان التي كنت أراه فيها دائما، ولطالما آمنت بأن ما قضاه في فرنسا لم يكن سوى منفى، لكنه لم يكن منفى مدمّرا وسلبيا، بل أبدع فيه وجعله إيجابيا في حياته، وفي ثقافتنا المغاربية. ما هي الأسباب الموضوعية التي اجتمعت لتشكيل التجربة الحداثية الأدبية والنقدية في المغرب، حسب رأيك؟ أعتقد أن ثمّة في المغرب أمرا يدعو للتأمّل؛ وهو أن المبادرات الثقافية كانت تصدر دائما من المثقّفين أنفسهم، وليس من المؤسسات التي لم ننتظر منها شيئا. وبدأت تلك المبادرات من قبل مجموعة من الأسماء منذ الستينيات، ثم تبلورت منذ السبعينيات في الكتابة والبحث، والتعرّف على الأشياء الجديدة في أوروبا والولايات المتّحدة الأمريكية، والعالم. وأظن أن ذلك كان هو الحافز والسبب المباشر في وجود حركيّة متحرّرة من البيروقراطية المؤسّساتية، والعوائق الإيديولوجية والأحكام القبلية والأفكار التي لا مبرّر لها، وهذا ما دفعنا إلى الارتباط بالقضايا الجديدة بوعي نقدي. كيف تقارب موقف المثقّف العربي ممّا يجري، اليوم، من انتفاضات شعبية يشهدها العالم العربيّ؟ عاش المثقّف في العالم العربي، بصفة عامّة، هذه الثورات الشعبية بدهشة وحماس كبيرين، وكلّ من أعرفهم، ومن الكتابات التي اطّلعت عليها، كانوا إلى جانبها، وهو ما أعتبره طبيعيا، لأننا كنّا نحلم بهذه الثورة منذ الستينيات. بل إننا لم نحلم فقط، كنا نشتغل في هذا الأفق الذي يحرّرنا من جميع القيم المضادة للحرية والإنسانية. وهذا الجيل يصنع اليوم ثورته في مصر وتونس، والثورة تتحقّق في كل بلد عربيّ بصيغة أو بأخرى. إنها هدية الشبّان لجميع الأجيال العربية، وأنا متأكّد أنها ستغيّر العالم العربي تغييرا جذريا، وستغيّر علاقتنا بالعالم، وعلاقة العالم بنا. لكن المثقّف العربيّ متّهم بتواطئه مع السلطة، وفي أحسن الأحوال بالجبن، واكتفائه بموقف المتفرّج؟ لنكن واضحين، ليس هناك موقف متفرّج، فقد كنّا مجموعة من الكتّاب في مظاهرتي 20 فبراير و20 مارس، اللتين طالبتا بالتغيير والإصلاح السياسي في المغرب. رغم ذلك، علينا أن نحترم الشباب وألاّ نسرق الكلمة منهم أو أن نتحدّث باسمهم، بل يجب أن ننصت إليهم ونفتح لهم قنوات التعبير والحوار. ما الذي تضيفه الجوائز على غرار جائزة ''شيبو'' التي تحصّلت عليها مؤخّرا، إلى محمّد بنّيس؟ تحصلت على جائزة ''شيبو'' الإسبانية قبل شهرين، وغيرها من الجوائز التي تأتي من مؤسسات شعرية رفيعة ومن شعراء كبار، فتبعث على السعادة. وأظنّ أنّها مفيدة جدّا لنا جميعا، لأنها تفتح إمكانية حوار من مستوى رفيع مع الغرب، وتخلق جسورا ثقافية وشعرية بين الثقافة واللغة العربية، وبين غيرها من الثقافات واللغات. أقول دائما إن ذلك يؤكّد على أن العالم الغربي يمكن أن يسمعنا ويحترمنا. لعلّ مصداقيّة هذه الجوائز تكمن في عدم وقوف جهات رسمية وراءها، وليس لها هدف خارج الدائرة الإبداعيّة. هل تقبل بجائزة تحمل اسم حاكم عربيّ؟ (يبتسم) لا، لا.. ليس لي علاقة بهذه الأشياء، من قريب أو من بعيد. لا تربطني علاقةٌ مع أيّ مؤسّسة رسمية في العالم العربي أو خارجه. أسعد بالجائزة عندما تكون تحيّة من جهة ثقافية مستقلّة، وصادرة عن تقدير حقيقيّ للكاتب وإبداعه، ولا أهتمّ بغير ذلك، وهو ما جعلني أرفض كثيرًا من الأشياء التي لم تكن بهذا النقاء.