الأمكنة دلالات مصاحبة للخلق الشعري، لها وقعها وجمالياتها أيضا، لها نبضها الذي يختلف من قصيدة لقصيدة، لأن الامتلاء بمكان ما هو في النهاية تلوين طبيعي لشكل القصيدة، ورصيد روحي يتحدث إلى الانتماء والانتماء في ملحق الفجر الثقافي هذا الأسبوع سيكون للبحر، البحر المتوسط بضفتيه، وبكامل حضاراته وتناقضاته ومواعيده المؤجّلة.. أما المنتمي فهم مجموعة من شعراء الضفتين، يفتحون برفقتنا هذه الذاكرة الزرقاء. قد يكون اختيارا حالما، لا سيما وأن الحلف الأطلسي الذي يجمع عددا كبيرا من بلدان الضفة الشمالية من البحر المتوسط يشنّون حملة عسكرية ضد ليبيا، لكن هذا الشعر خارج عن نفاق هؤلاء كما أكد رئيس وزراء بولندا مؤخرا.. هم الشعراء لا يفقهون حكايات السياسة، ويمتلئون بالذي لا يتشكّل ولا يصنّف في دائرة الحراك السياسي الراهن. لذا الحراك الذي نحاول هذا الأسبوع هو البحر كلغة مشتركة بين شعراء المتوسط، هل من خطاب متوسطي واحد بين شعراء البحر الأبيض المتوسط؟ ما هي أدوات الكتابة الشعرية المتوسطية؟؟ هل من مدرسة مشتركة في كتابة الشعر ينهلون منها جميعا؟؟ لطالما تحدثنا عن الخصائص الفيزيولوجية المشتركة بين سكان البحر الأبيض المتوسط، وأكد لنا علماء المجتمع والنفس أن الجزائري والإيطالي مثلا يتحدث كثيراً.. انفعالي.. يستعمل حركات يده عند الحديث.. هل هو كذلك الإيطالي والجزائري واليوناني..و..و.. عندما يكتب الشعر؟؟ قطعاً ندرك تمام الإدراك أن اللحظة الشعرية منفردة ولها من الخصوصية ما يجعلها حالة لا تكرر على الإطلاق وإلا لمَا كان هناك الشعراء الكبار، لكن هناك معالم مشتركة هناك قواطع مشتركة، هناك أفق واحد يتجه إليه تأمّل شاعر المتوسط.. من هذا المنطلق التقينا عددا من شعراء المتوسط، قد لا يشكّلون مدرسة واحدة نسميها مجازا توافقا مع موضوع ملحق الفجر الثقافي هذا الأسبوع.. لكنهم يجمعون على تأثيرات تيارات البحر في كتاباتهم الشعرية.. ربما سنعقد اتفاق شراكة متوسطية شعرية. قد لا نتمكّن كذلك من تفصيل تاريخ شعرية البحر المتوسط، لأنه تاريخ العالم بالكامل.. منذ شعراء الملاحم اليونانية والشعر متوسطي.. وبالتالي يشاركنا في هذا الملحق كل من الشاعر المغربي محمد بنيس، والفرنسية إديت أزام، والمؤدية الشعرية أنجليك لوناتوس، ومواطنه ستراتيس باسكاليس، وكذا الشاعر البرتغالي كاسيميرو دي بريتو، إلى جانب الشاعر الجزائري المغترب لحبيب انقور. هاجر.ق/ ميلود.ب سميرة نقروش شاعرة جزائرية المتوسط ليس مكانا جغرافيا فقط بل هو فكرة ومتخيّل "ربيع الشعراء لهذا العام جاء احتفاء بالشاعر الفرنسي برنارد نويل وهو شاعر كبير ومتواضع جدا، لكن الاحتفاء به ليس إلا مظهرا من مظاهر هذه الاحتفالية، فطبعة هذا العام أردنا أن نعطي فيها الصوت للشعر المتوسطي، طبعا المناسبة كانت صدور "أنطولوجيا الشعر المتوسطي" عن دار غاليمار في خريف 2010، صدور هذه الأنطولوجيا جعلنا نفكر في تنظيم لقاء حول الشعراء والبحر الأبيض المتوسط ليس فقط شعراء البحر الأبيض المتوسط، فالمتوسط ليس مكانا جغرافيا ولكنه متخيّل أدبي وشعري، هو مكان للحضارات للاختمار للتبادل للصراع، إذًا المتوسط هو فكرة أيضا. أقمنا نشاطين أساسيين في هذه الطبعة الرابعة التي تقام في الجزائر أولها حلقة النقاش حول الشعراء والبحر الأبيض المتوسط والثاني حول معنى حياة كاملة في الشعر حول الذين سخروا حياتهم كاملة للشعر وحول كل ما يحيط به. طبعا كان لقراءة الشعر نصيب أيضا، يجب الإشارة فقط إلى أن الشعراء المدعوون لهذه الطبعة من ربيع الشعراء هم أصوات مختلفة من بلدان مختلفة، طبعا كل شاعر هو صوت مفرد لكن بعيدا عن هذا، هناك عائلات كثيرة للشعراء هناك الشعراء الكلاسيكيين هناك الشعراء الحداثيين، هذا لا يهمنا كثيرا ما يهمنا هو أن ننشئ حلقات وصل بين هذه العائلات وبين الشعراء أنفسهم، هذه المرة استضفنا ثمانية شعراء بالإضافة إلى فنانين ثلاثة نور الدين سعودي وأنجليك لوناتوس وكاترينا فوتيناكي الأخيرتين اللتين أقامتا حفل الاختتام، طبعا كل هذا هو اختمار لأشياء كثيرة ...". محمد بنيس شاعر مغربي اللقاء المتوسطي فرصة لاشتغال المتخيلة "يجب أن نحيي مثل هذه النشاطات الثقافية لجودتها ولما تحققه من تواصل بين أصوات شعرية متوسطية وجمهور متنوع جزائري يحضر هذه الأنشطة. أعتقد دائما أن تأثير مثل هذه الأنشطة يتطلب وقتا، فلا يمكن أن نطلب من نشاط ثقافي أن تكون له نتائج فورية سواء في المنظور الشعري أو الثقافي العام. ربما كان أهم شيء هو التعود على الالتقاء بشعراء من آفاق متعددة ومختلفة والإنصات إليهم بكل تواضع والتقاط الفرصة التي تجعلنا نعود من جديد لنتأمل أوضاعنا الشعرية والثقافية سواء في الجزائر أو خارجها، وأنا متأكد أن تأثير مثل هذا اللقاء لا يقتصر على الجمهور الجزائري والشعراء الجزائريين الذين حضروا ولكن أيضا على الشعراء الذين قدموا من بلاد متوسطية أخرى سواء من اليونان أو من البرتغال أو من فرنسا، هذا هو ما يجعل نشاط أساسه اللقاء والتبادل والحوار نشاطا تغيب فيه المجاملات تغيب فيه البلاغة والسطحية ويغيب عنه الانفعال وهذا كله يجعلني سعيدا للمشاركة فيه لأنني أعرف أن هناك شيء ما يمر بيني وبين الشعراء الآخرين المشاركين أو بيني وبين بعض الحضور، لا أعرف دائما ما هو هذا الشيء ولكن متأكد أنه شيء يلتقطه كل واحد منا بطريقته الخاصة. أعود وأؤكد أني لا أتسرع في التقاط النتائج والخلاصات التي عادة ما نكون حريصين على إثباتها في كل لقاء، أنا دائما أترك الزمن يفعل فعله، ولكني مطمئن أن لقاء حرا ومفتوحا مع الشعراء أو مع الجمهور أو مع مدينة الجزائر أو مع الثقافة الجزائرية أو مع التاريخ والعمارة الجزائرية كل هذا له مكانه في الإحساس وفي الكلمات وهذا اللقاء المتوسطي هو فرصة أيضا لاشتغال المخيلة والتأمل فيما يعنينا في الكتابة من أسئلة تخص حياتنا وتخص ما نعيشه بصفة عامة". لحبيب أنقور شاعر جزائري البحر رمزية الضياع.. قبل أن نحاول الاقتراب من موضوع الشعرية في البحر المتوسط، لا بد أن أكون صريحا معكم.. بالنسبة لي وبالنسبة للكثير من المغتربين لا نملك علاقة جيدة مع البحر والدليل أننا نقول "البحر.. أداه البحر.. تبحر" ومعنى تبحر هو ضاع، وبالتالي البحر بالنسبة لنا ضياع وخوف..أو حتى غنائية يا بحر الطوفان، وقد تجذّر هذا الشعور كذلك بحكم الاحتلال والمنفى والرحيل.. وربما لغاية الآن.. الحرقة وما شابه.. بالنسبة للعلاقة الشعرية مع البحر قرأت في بداية حياتي كتاب "رحلة أوليس" كذلك تجربتي الخاصة في الرحيل والغربة وأنا طفل.. صفير السفينة لا يزال في رأسي ولا يمكنني نسيان ذلك.. وعليه لا يمكنني الجزم بوجود مدرسة واحدة لشعراء البحر المتوسط.. الشعرية عمل خاص جدا.. قد نسكن نفس المكان ولكننا لا نحتفظ بذات الذاكرة.. لكل شاعر ذاكرته الخاصة التي حتما سيحملها من المكان لكن سوف يأخذها بطريقة مختلفة.. وبرؤية خاصة لا يمكن لأحد أن يتدخل فيها. المؤدية اليونانية أنجليك لوناتوس قصائد المتوسط هي قصائد النور "أولا أنا لا أكتب الشعر.. بدأت حياتي بالموسيقى.. وسرعان ما سحرني الشعر فصرت لا أغني إلا الشعر، عندما تغني الشعر إنك بالتأكيد تختار القصائد بعناية.. تختار القصائد الجميلة والتي تحمل وقعا في النفوس.. الموسيقى في حد ذاتها تحب الشعر وربما هي ابنة الشعر لأن الشعر خلق العالم.. لذا أنا أختار القصائد التي تشبهني.. التي تشبه البحر المتوسط.. لنعرف جيداً أننا نسكن في منطقة قديمة جداً هي أم الحضارات.. حتى أن لتسمية اللاتينية ميديرانيون تعني "وسط الكرة الأرضية" هذا البحر هو وسط العالم.. يجمع عيون ثلاث قارات.. الشعر في البحر الأبيض المتوسط ساحر.. لا يحتاج لموسيقى، لأنه في حد ذاته الموسيقى.. لا يمكنني على الإطلاق أن أشك في شعرية شعراء المتوسط لأن الشاعر هو يترجم الطبيعة ويحملها إلينا في كلمات منسقة.. والطبيعة في كل المتوسط هي طبيعة النور لأن الشمس صورة جمالية قد لا يعرفها سكان الغيم الشمالي.. بالنسبة لليونان.. هنا بدأ الشعر بل هنا بدأ كل شيء ولا يزال، صحيح أننا بلد متخلف ولنا ديون كثيرة ومستحقات مالية للاتحاد الأوروبي.. لكن هل يمكنني حل مشكلة الديون بقيتارتي وموسيقاي الحالمة، فكرت وفكرت ووجدت أن الحل هو ما يلي: نعرف جيدا أن أصول كافة الكلمات، لا سيما الاصطلاحية منها، هي كلمات يونانية الأصل.. ماذا لو دفع كل شخص سنتيماً واحداً لليونان مقابل استعماله للمصطلح من أصل يوناني.. حتما سنمسح المديونية.. لِمَ لا، لقد أعطينا العالم لغتنا ومعارفنا عن طيب خاطر.. أمزح فقط.. الشعر والموسيقى هي حياتي". ستراتيس باسكاليس شاعر يوناني المتوسط هو الأم التي أنجبت الحضارات " ...نزلت من الطائرة وقابلتني الشمس الشبيهة جدا بشمس بلدي، لكنها أكثر شساعة أكثر قوة تمحي كل الألوان، وتجعل من الكل واحدا، إذًا المتوسط بالنسبة لي هو هذا الضوء ... هذا الضوء وهذا البحر وهذه الحرية وهذا الوضوح جعلني أتحرر من كل ضيق ومن كل الظلال ومن كل عبء قد يسلبني شيئا من الحرية. المتوسط بالنسبة لي هو الأم التي أنجبت الحضارات القديمة ...". كسيميرو دي بريتو شاعر بورتغالي أنا أشبه شعراء المتوسط "لماذا تنظر الضفة الجنونية للشمال بصورة المستعمر؟ هل لأنها آخر ما حدث.. العرب أيضا كانوا عندنا ومن يعرف، ربما أنا عربي.. نعم تماما أنا عربي ومتوسطي لأنني أرى صورتي دوما في هذه الضفة.. كم من المرات تنزل إلى الجزائر أو المغرب وتشعر أنك لم تغادر بلدك بعد.. تسمع ذات الزقزقة.. وتشم ذات الرائحة.. إنها رائحة المتوسط الذي توزع الشمس بلا حساب.. وتدعوك لكتابة القصائد حتى ولو لم تكن شاعرا. لا أرى فرقاً يذكر هنا في الجزائر.. الشمس نفسها بداية القصيدة والناس يشبهونني.. أنا لا أفهم العربية لكن يقول الشعر شعراً أفهمه.. وأكون حريصا على السماع إليه لأنه يبدو مألوفا لي وقلبي لا شك يترجمه.. لا يمكننا أن نتجاهل هذا التوحد الذي يجمعنا.. التاريخ الذي ربط الضفتين هو تاريخ كبير.. ولعل الوجود العربي في الأندلس وفي جنوب البرتغال لقرون طويلة هو حقيقة لا نزال نشهدها.. الربيرتوار الشعري في البرتغال يجمع أكثر من 150 شاعر من أصل عربي، لذا أنا عربي المشاعر، عربي الشمس والدفء الذي يسكننا ويجعلنا نشبه بعضنا في كل الأزمان، لذلك أنا أعتبر نفسي الشجرة التي تسير وراء خطوات الإنسانية.