السيد العبيدي، الذي تحفّظ عن ذكر اسمه الكامل، رجل أكاديمي ليبيّ، متّزن، صاحب شهادة دكتوراه في تخصّص علمي معقّد؛ من إحدى الجامعات الأمريكية، مقيم في الولاياتالمتحدة منذ أكثر من سبع سنوات مع زوجته وأولاده .. "وكافي خيرو شرّو" كما يقول المصريّون، لكن حكايته حكاية، سنكشف عنها في هذه الشهادة التي ننقل لكم تفاصيلها من العاصمة الليبية طرابلس.. من مدرجات الجامعات الأمريكية إلى قيادة كتيبة مسلحة هكذا غيّرت رصاصة في درنة مجرى الأحداث في ليبيا لم يكن هذا الرجل الليبي الخجول، ليلفت انتباهنا لولا صرخة التكبير التي انبعثت من غرفته بفندق إقامتنا في طرابلس، تعبيرا على انفعاله الإيجابي فور سماعه بخبر مقتل عبد الفتاح يونس العبيدي، قائد أركان قوات المعارضة، المنحدر من نفس قبيلته، قبيلة العبيدات وهي أبرز قبائل المنطقة الشرقية بليبيا.. وكنا قد نقلنا في تقاريرنا السابقة من طرابلس تفاصيل مهمة عن تورّط الجماعات الإسلامية المسلحة، في مقتل اللواء عبد الفتاح، رئيس أركان قوات المعارضة المسلحة، وذكرنا أن رجال التنظيم المسلح قاموا بذلك لتوجيه رسالة إلى الليبراليين داخل المجلس الانتقالي، وتحذيرهم من مغبّة عقد أية صفقة سياسية محتملة، بعيدا القاعدة. كما ذكرنا بأن القوة الأكثر تأثيرا، على الميدان في المنطقة الشرقية بليبيا اليوم، هي لرجال القاعدة، ونقلنا عن مصادر مسؤولة بطرابلس، حقائق موثّقة عن انتعاش حركية تمويل عناصر التنظيم المسلح بالأسلحة عن طريق النيجر والتشاد والصحراء الكبرى وعن طريق مصر أيضا، ولم نكن نتصور بعد ذلك أن هذا الأكاديمي الرصين، القادم من وراء البحر، قد يحمل في أوراقه تفاصيل مثيرة أخرى، قد تميط اللثام عن لغز حادثة مقتل اللواء عبد الفتاح يونس، وكذلك عن الوضع الحقيقي في أهم مناطق الجهة الشرقية بليبيا والتي تقبع أغلبها تحت راية المجلس الانتقالي ظاهريا، لكن المسيطر الميداني فيها هي الجماعات الإسلامية المسلّحة وبالخصوص ما أصبح يعرف ب"إمارة درنة" تحت قيادة الليبيين دنقو، فرطاس وبلعرج. من مدرجات الجامعات الأمريكية إلى قائد كتيبة مسلحة بقول الدكتور العبيدي بعد أن رضخ لإلحاحنا على نقل حكايته، إنه حمل حقيبته وعاد إلى ليبيا تاركا زوجته وأولاده وراءه في أمريكا، من أجل الوقوف على حقيقة الوضع بعيدا عن أخبار وكالات الأنباء والفضائيات، فتوجّه إلى مسقط رأسه "درنة" القابعة تحت سيطرة المجلس الانتقالي والمنتفضة ضدّ نظام العقيد، فاصطدم بواقع لم يكن يتخيله يوما، وصفه ب"المخيف". وسط أخبار القتل والسلب والترهيب، دخل الدكتور العبيدي "درنة"، ودخلت معه أخباره التي تقول إنه صديق سيف الإسلام القذافي، ومقرّب من نظام العقيد، وهي الأخبار التي كانت كفيلة بقطع رأسه أو تفريغ مشط رصاصات كلاشنكوف في صدره، كما يقول.. لم نترك جزئية علاقة الدكتور العبيدي بسيف الإسلام القذافي تمر دون ذكر، وأصررنا على معرفة تفاصيلها، التي سنوردها لا حقا... سلطة قبيلة العبيدات بدرنة، أعطت الدكتور ثقة المكوث بها لأكثر من شهر وعشرة أيام، شهد فيها - كما يقول - مقتل 20 شخصا بالرصاص لمجرد أنهم كانوا يشتغلون، سابقا، في أمن الدولة. ويؤكد الدكتور أن تسعة من بينهم نكّل بهم قبل قتلهم؛ حيث فقئت أعينهم، وبترت أطرافهم، لأنهم من قبائل قليلة العدد بدرنة بالمقارنة مع قبيلة العبيدات، مثل قبائل زلطن، مصراتة، تاجورة، كرغلى وورفلّة. ويؤكّد الدكتور أن مجرد الحديث عن حقن الدم أو رأب الصدع، حتى في المجالس السرية أو الحميمية في درعة، قد يجلب لك الاتهامات بالموالاة للقذافي واعتبارك من الطابور الخامس، وقد يتسبّب ذلك في قطع رأسك والتنكيل بجثتك. في هذه الظروف المتأزّمة والمشحونة، شهد العبيدي مقتل قريب له في حادثة غيّرت مجرى وجوده في المنطقة كما غيرت يوميات درنة بكاملها، وقد لا نبالغ إذ نقول بأنها غيّرت مجرى الأحداث في ليبيا كلّها.. رصاصة في درنة غيّرت مجرى الأحداث في ليبيا يقول الدكتور العبيدي بتأثر، إن ابن عمّ له، من قبيلة العبيدات، قُتل على يد رجل مسلح من عناصر القاعدة، أطلق عليه الرصاص لأنه منعه من هتك عرض إحدى نساء درنة، وهي الحادثة التي استثمرها الدكتور العبيدي، في إثارة مشاعر شباب قبيلته وحثّهم على الانتفاض على هذا الوضع الدخيل على المنطقة، فقام بشراء قطع أسلحة من نوع كلاشينكوف وصاروخين من نوع "م.ط"، من ماله الخاص، من سوق الأسلحة المنتشرة في المنطقة بشكل غير مسبوق، حيث تباع الكلاشينكوف في "درنة"، حسب تأكيد الدكتور، بألف إلى ألفين دينار ليبي، فيما تباع القنبلة اليدوية الواحدة بحوالي 5 دنانير ليبية فقط، يتاجر بها أطفال لم يبلغوا بعد سن الرشد. كما يؤكّد العبيدي أن كل أنواع الأسلحة متوفرة في درنة، من الرصاصة إلى الدبّابة، ناهيك عن الآليات الصناعية والماكينات الضخمة التي تهرّب يوميا إلى مصر لتباع بأثمان بخسة. وبالعودة إلى مجموعة شباب العبيدات الذين جنّدهم الدكتور في كتيبة سمّاها "كتيبة الوطن"، فقد وجدت مكانا لها بين الكتائب الشعبية التي رفعت السلاح للدفاع عن أهلها وممتلكاتها في درنة. ودخلت "الكتيبة" - يضيف الدكتور - في اشتباكات يومية مع مسلحي القاعدة الذين اختاروا غابة بومسافر بدرنة، مقرا لهم، وفي هذا الصدد يذكر الدكتور ستة (06) مقرات منتشرة في درنة تتخذها الجماعات المسلحة مأوى لها، وهي مقر السلع التموينية على يمين طريق الدخول إلى درنة، مقر غابة بومسافر، مقر ميناء درنة، مقر المدينة الرياضية، مقر صومعة الحبوب وأخيرا مقر مصنع اللدائن. بعد أسبوعين من الاشتباكات؛ نجحت "كتيبة الوطن" العبيدية، في دحر مسلحي القاعدة إلى منطقة خارجة نسبيا عن درنة، اسمها منطقة "المخيلي"، وهنا تعود إلى واجهة حكاية الدكتور العبيدي حادثة مقتل اللواء عبد الفتاح يونس. مقتل اللواء عبد الفتاح يونس العبيدي.. حكاية أخرى يقول الدكتور إن كتائب الجماعات المسلحة التي تراجعت إلى منطقة المخيلي المكشوفة، على عكس غابة بومسافر، وجدت نفسها معزولة، خاصة بعد قيام أعضاء من المجلس الانتقالي بتزويد طائرات الناتو بإحداثيات موقعهم في المخيلي، وهو ما اعتبرته عناصر التنظيم المسلح، ومن بينهم إرهابيون معروفون على غرار دنقو، فرطاس وبولعرج، المنضوون تحت قيادة عبد الحكيم الحصادي وسليمان قمّو واسماعيل الصلابي. اعتبروا وشاية المجلس الانتقالي بهم، طعنة غدر، من المفترض أن اللواء عبد الفتاح يونس ابن قبيلة العبيدات، قد دفع ثمنها وقُتل على خلفيتها، لاحقا، في رسالة مزدوجة إلى المجلس الانتقالي وإلى قبيلة والعبيدات. لكن قبل ذلك، بعث أمير كتيبة درنة، التي وجدت نفسها معرّضة للقصف تحت سماء المخيلي المكشوفة، بعث برسله إلى الدكتور العبيدي وشباب "كتيبة الوطن" للتفاوض معهم بشأن العودة إلى غابة بومسافر بالسلم عوض العودة إليها عن طريق العنف، وهو ما أسفر عن عودة إمارة الجماعة المسلحة إلى غابة بومسافر، حقنا للدماء، وهنا دخلت الجماعة المسلحة، يضيف العبيدي، في استراتيجة جديدة متمثلة في زرع رجالها في أغلب مساجد درنة وتكليفهم بإمامة الناس فيها والاعتماد على خطاب ديني متشدد، ومشيد ب"دور العمل المسلح من أجل القضاء على الطاغوت الحالي معمر القذافي؛ قبل التفرّغ لحرب الطاغوت الأول المتمثل في الناتو والغرب الكافر". وهو الخطاب الذي وجد صداه عند الكثير الشباب المسلح، مع العلم أن منطقة درنة، خرج منها، سابقا، الكثير من الشباب الذين تدربوا في أفغانستان، وانضموا إلى تنظيم القاعدة، قبل عقود من الزمن، حسب تقارير أمريكية، وضعت الليبيين في ثاني مرتبة بعد السعوديين من حيث الانخراط في العمل المسلح تحت لواء اقاعدة. "لا للقبيلة نعم للقاعدة" ويركّز الدكتور العبيدي، في حديثه عن استراتيجية عناصر القاعدة في درنة، بالقول إنهم دفعوا المجلس الانتقالي إلى حمل شعار "لا للقبلية"، وذلك لتهميش دور شيوخ القبائل الذين يملكون سلطة التوجيه في العرف الليبي، وبذلك كسر القيمة الاجتماعية التي يستمد منها الليبيون قوتهم، وإعطائها لعناصر التنظيم المسلح تحت عباءة المجلس الانتقالي. رغم ذلك؛ يقول الدكتور العبيدي، فإن الحقيقة الثابتة التي لا يجب أن نهملها في الحديث عن انفجار الأزمة في ليبيا هو ذلك العامل التاريخي المكبوت، حيث لا يزال سنوسيو المنطقة الشرقية في ليبيا يؤمنون بأن معمر القذافي وقبيلته خطفوا السلطة من أيديهم قبل 42 سنة، وبأن الوقت أذِن لاسترجاع الشرعية التاريخية، وهو المعطى الذي يلعب على عاطفته عناصر القاعدة في المنطقة الشرقية. في هذه الظروف الاستثنائية والمعقّدة، ترك الدكتور العبيدي "درنة" و"كتيبة الوطن" فيها، وتوجّه إلى طرابلس، بعد دخوله إلى مصر ومن ثمة سفره إلى تونس؛ ثم الدخول عبر الحدود الغربية عبر راس جدير. دخل العبيدي طرابلس وفي حقيبته أوراق المحنة وحلول مفترضة يحملها إلى صديقه سيف الإسلام نجل العقيد الليبي، وهنا نعود إلى حكاية الصداقة الأولى. عبد الجليل عطّل الدستور الجديد لغاية في نفسه "أكبر مظلوم في هذه المحنة هو الدكتور سيف"، بهذه الكلمات المسحوبة من حشرجة حلق، يبدأ الدكتور العبيدي الحديث عن حكايته مع ابن الزعيم، الذي تعرّف عليه قبل سبع سنوات ورافقه في رحلته إلى أمريكا وصادقه إلى يومنا هذا. ويسترسل العبيدي قائلا: "المجلس الانتقالي يعتبر سيف الإسلام طاغوتا ابن طاغوت، والموالون للقذافي يعتبرونه أساس البلاء لأنه هو الذي استقدم شلقم وكوسة وجماعتهما التكنوقراطيين، وعزّز مناصبهم في الدولة، وها هم اليوم ينقلبون على القذافي". ويكشف العبيدي في هذه الفضفضة مع "الفجر"، عن معطيات جديدة، يفسّر بها ما أسماه ب"نظرية المؤامرة على ليبيا"، رغم أنه - يضيف - لم يؤمن من قبل بهذه النظرية. وفي هذا الصدد، يقول الدكتور العبيدي إن سيف الإسلام أعدّ بالفعل مشروع دستور ديمقراطي جديد، بمتابعة من الدكتور بورتر المعروف في جامعة هارفورد الأمريكية وأنه عرضه على أعضاء الحكومة السابقة، لا سيما محمود جبريل وعلي العيساوي ومصطفى عبد الجليلي وفرحات بن قدارة، في سبتمبر الماضي، أي قبل أشهر مما يعرف بالربيع العربي. لكن عبد الجليل طلب منه التريّث، ثم أعاد عرضه عليه مجددا في ديسمبر الماضي فعاد عبد الجليل وطلب منه تأجيل الموضوع، إلى أن اندلعت أحداث تونس وبعدها أحداث مصر وامتدت الأحداث إلى ليبيا. وهو ما يفسّر - حسب الدكتور العبيدي -"النيّة المبيّنة لأتباع عبد الجليل ومن يقف وراءهما في تعطيل مشروع الدستور الإصلاحي". يؤكّد الدكتور العبيدي في ختام مكاشفته لنا، أنه عائد إلى درنة، بعد أن يتحصّل على إجابات مفصلة عن مقترحاته التي وضعها على مكتب صديقه سيف، والتي رفض الكشف لنا عن ماهيتها، مشيرا إلى أنها مقترحات استراتيجية مستندة إلى دراسة ميدانية، قام بها في مناطق درنة، مساعد، طبرق، القبة، شحّات، البيضاء والدرسة، المرج الأبيار ومعقل الحكومة الانتقالية بنعازي.. وكلها مناطق في الجهة الشرقية لليبيا، لا تزال تقبع تحت سيطرة المجلس الانتقالي، رغم بوادر الانشقاق فيه ورغم تذمر سكانها الذين فقدوا نعمة الأمن في يومياتهم وبدأت أسئلة الجدوى تقلق موقفهم. لم نترك الدكتور العبيدي يذهب قبل أن نسأله، ما الذي يدفع بأكاديمي متخصص في العلوم الطبيعة، يعيش في ديمقراطية أمريكا، إلى أن يدخل حربا استراتيجية معقّدة وغير معروفة العواقب ؟؟ هل هي الهبّة القبليّة؟ أم دواعي الصداقة مع ابن الزعيم ؟؟ يبتسم الدكتور العبيدي، ويرافقنا بصمت لتناول وجبة السحور، استعدادا لصوم ثاني أيام الشهر الفضيل... مبعوث ”الفجر” إلى طرابلس / رشدي رضوان