في عام 1982 هجم رفعت الأسد بقواته ”الباسلة” على مدينة أبي الفداء الوادعة على ضفاف العاصي بنواعيرها الأربع، التي أعطت المدينة رمزها بالخصب والعطاء، كان في المدينة حي قديم يسمى ”الحاضر” أزقة ضيقة، مقبية في معظمها، تشعر بالدفء عند ولوجها، لأن أيدي الحمويين ترحب بمرتاديها دفءا رغم الجو المحافظ للحي. اعتبر رفعت الأسد هذا الحي العتيق ”قلعة الإمارة الإسلامية” التي تهدد ”الثورة” حسب الخطاب الرسمي آنذاك، فقصفته قوات رفعت الأسد بالمدفعية والمروحيات وجعلته أرضا، وعلمت فيما بعد أن كثيرا من الصديقات اللواتي درسنا سوية في حماه متن وأهلهن تحت القصف الذي راح ضحيته أكثر من ثلاثين ألف قتيل و15 ألف مفقود. استمرت الحملة العسكرية أسبوعين متواصلين، فأصبحت المدينة الجميلة خرابا. وحدثني أناس نجوا من المجزرة التقيتهم خارج سورية أن الجثث في ساحة العاصي غطت الأرض، عندما بحثوا عن ذويهم كانوا يمشون فوق الجثث. تلك المجزرة لم تغير معالم المدينة فقط، بل غيرت الخريطة النفسية للسوري، حيث زرعت الخوف حد الرعب في قلوب السوريين، خاصة وأنها جاءت بعد حملة اعتقالات شملت كل الطيف السياسي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وأحصت منظمات حقوق الإنسان آنذاك أكثر من عشرة آلاف معتقل سياسي، أمضوا عشرات السنين دون محاكمة. صورة الخوف التي دامت عقودا مزقها جيل ”طلائع البعث” الذي تعلم منذ نعومة أظافره الخوف من أهلهم، وتعلموا في مرحلة التعليم الأولى (التحضيري) أناشيد تأليه القائد، وأن الرئيس القائد ”أب السوريين”، إلى أن وصل مرتبة التجريم من يذكر اسم القائد بطرفة ، فأصبحت النكتة على ”القائد” تؤدي براويها إلى السجن. لكن عندما جاء الوريث بشار ابن أبيه وقدم وعوده ”بالتغيير والاعتراف بالرأي الآخر في يمين القسم”، استبشر الناس خيرا، خاصة مع ربيع دمشق بفتح المنتديات للحوار والتعبير. وباعتبار السوريين على مدى ثلاثين عاما كانوا محرومين من التعبير حتى داخل الحمام خوفا من الوشاية، لذا عندما جاءت منتديات ربيع دمشق أطلقوا العنان لأنفسهم ليريحوها من عبء صمت السنين المرهق، لكن هذا الربيع أصبح يبابا وأغلقت المنتديات وسجن النشطاء، وخرج عبد الحليم خدام عن صمته وكان نائب رئيس الجمهورية وقدم ”موعظة” للمثقفين في مدرج جامعة دمشق، يهدد فيها ويتوعد من يتحدث عن الرئيس الأب والابن في محاضرة ألقاها أمام هيئة التدريس الجامعية مساء الأحد 18 فيفري عام 2001، يومها قال: ”هل نحن مجتمع مدني؟ طيب، ترفضون كمثقفين هذا المجتمع، ما هو البديل؟ هل المجتمع الجزائري؟ هل ما حدث في الجزائر؟ هل ما حدث في يوغسلافيا؟ هل ما حدث في الصومال؟... قد يكون هناك خلل ما في هذه المؤسسة أو تلك، نناقش الخلل، لكن لا ننسف ما هو قائم لأن لا يملك أحد البديل ولا يملك أحد القدرة على نسف ما هو قائم. هذا يجب أن يكون واضحا، لأننا لن نسمح بأي شكل من الأشكال أن تتحول سورية، لا إلى جزائر ولا إلى يوغسلافيا ولا إلى غيرها. هذا الأمر يجب أن يكون واضحا، ومسؤولية المثقفين أن يساعدوا في تعزيز الوحدة الوطنية وفي تطوير المجتمع الوطني في البلاد، في نقد ما هو قائم ماشي الحال لكن ليس بتجريم ما هو قائم، لا ولن نسمح ..”. وبعد عامين على هذا التهديد أصبح خدام ”معارضة” كما أصبح رفعت الأسد معارضة أيضا. اليوم وبعد ثلاثين سنة تعود حماه للواجهة، ويقصفها ماهر الأسد، شقيق الرئيس، كما فعل عمه رفعت قبل ثلاثين سنة، الفرق بين المجزرتين أن مجزرة الألفية الثالثة نقل جزء منها ”المواطن الصحفي” وكانت الصور مروعة ووصمة عار في جبين الإنسانية، أن تطفأ عيني طفلة لا تتجاوز العامين، وأن يُذبح شاب اسمه عمر القاشوش الذي صدح بالمظاهرات في جمعة ”ارحل”، ولم تكتف قوات الشبيحة والأمن والجيش بذبحه، بل اقتلعوا حنجرته ورموا جثته بالعاصي.. وتدك أحياء مدينة حماه على ساكنيها، وتقصف مآذن المساجد .. هل هذه هي مهمة الجيش العربي السوري في وقت لازالت فيه الجولان تحت الاحتلال الإسرائيلي؟ الحصيلة الأولية لمذبحة حماه الثانية نحو 500 شهيد، لكن هناك مئات الآلاف من المعتقلين وغير معروف إن كانوا يعودون، لأن هناك آلاف المعتقلين المفقودين، وتسربت أنباء عن إعدام معتقلين ميدانيا. لماذا كل هذا القتل؟ لماذا هذا الإجرام ضد شعب أعزل نفترض أن الدولة تحميه لا تقتله؟ حماه لازالت محاصرة، يعيش أهلها أقسى الظروف من شح المواد الغذائية والماء والدواء وحليب الأطفال، والحالة نفسه في دير الزور وحمص ودرعا وريف دمشق داريا وعربين والزبداني ودوما وإدلب ومعرة النعمان، جسر الشغور وإدلب وبلدات أخرى تحت القصف والحصار، أيعقل أن السلطة تستحق كل هذا الدم؟ أمعقول لا يوجد عاقل في هذا النظام لوقف آلة القتل الوحشية والاستجابة لمطالب الشعب بالحرية؟! إن إصرار النظام السوري على الحل الأمني والإيغال بالقتل والمجازر ضد الشعب السوري الأعزل سيدفع البلاد دفعا للتدخل الخارجي، ونبهنا لمخاطر ذلك منذ البدء، وسيكون النظام وحده مسؤولا عما تنزلق إليه الأوضاع في سورية، المرشحه لولوج المجهول إذا استمر الحل الأمني، وهذا مايهدد الاستقرار الإقليمي برمته.