مما لا شك فيه أن للصحبة آثارها على الواحد منا، وقد قيل: الطبع يُسرق من الطبع، وقالوا: إن الطبع يعدي؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : “المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل”. إذا كان الأمر كذلك، فحريّ بنا أن نحذر صحبة الفاسدين والفاسقين، لأن “الصاحب ساحب” وقد يجرّ صاحبه إلى طريق الشر والفساد، حتى إنك لترى الرجل يمضي بالفطرة على طريق الخير ويبدأ في طريق التعبد، فإذا بقطاع الطرق - من أهل الشر - يمنعونه من مواصلة السير، ويصدونه عن سواء السبيل، إنهم جلساء السوء الذين يحملون لواء المعصية، ويدعون لطريق الضلال صباح مساء. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: “مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إمّا أن يحذيك، وإمّا أن تبتاع منه، وإمّا أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إمّا أن يحرق ثيابك، وإمّا أن تجد منه ريحا خبيثة”. وقد أمر الله تعالى أن يلزم العبد الصحبة الصالحة وأن يتجنب صحبة السوء فقال: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف:28). إن صحبة هؤلاء البطالين تجلب على صاحبها العار والسمعة السيئة في الدنيا؛ فقد قيل : قل لي من تصاحب أقل لك من أنت، وقال الشاعر: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي وهي أيضا تؤدي به إلى سلوك مسالك الرذيلة والمعصية، حيث تنتهي الصحبة السيئة غالبا إلى المخدرات أو الوقوع في الفواحش والمنكرات من شرب للخمر أو ارتكاب فاحشة الزنا أو غير ذلك مما لا يحبه الله تعالى ولا يرضاه، وصدق من قال: فلا تصحب أخ الجهل وإيّاك وإيّاه فكم جاهل أردى حكيما حين آخاه يقاس المرء بالمرء إذا ما المرء ماشاه وللشيء على الشيء مقاييس وأشباه بل قد تصل بالعبد إلى الكفر والعياذ بالله، وإن شئت دليلا على هذا فانظر إلى قصة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يعتقد بصدق نبوة ابن أخيه حتى قال: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحا بذاك مبينا والذي كان يحوط النبي صلى الله عليه وسلم ويمنعه من أذى المشركين، لكنه ظل على صحبته برؤوس الشرك كأبي جهل وعبد الله بن أمية اللذين حضراه عند وفاته والنبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى نطق كلمة التوحيد لينجو من عذاب الله تعالى ويشفع له النبي صلى الله عليه وسلم لكن صاحبيه جعلا يقولان له: أترغب عن ملة عبد المطلب، فما زالا به حتى كان آخر ما قال: بل هو على ملة عبد المطلب. فانظر كيف كانت هذه الصحبة السيئة وبالا عليه حتى أهلكته وخسر الخسران المبين. ولو تأملت قصة التائب الذي قتل تسعة وتسعين نفسا ثم أكمل المئة فلما أراد التوبة وسأل عن أعلم أهل الأرض فدلوه على عالم نصحه أول ما نصحه بأن يخرج من أرضه فإنها أرض سوء. نعم الأرض التي ليس فيها من يأمره بمعروف أو ينهاه عن منكر هي أرض سوء فليخرج منها وليلحق بأرض طيبة بها اناس صالحون؛ فإن الصاحب ساحب. وقد ذكر الطبري رحمه الله تعالى عند تفسير قوله عز وجل: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ. أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ. قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ. فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ. قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ. أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ. إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ. إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ).(الصافات:51-61). عن ابن عباس قوله : هو الرجل المشرك يكون له الصاحب في الدنيا من أهل الإيمان، فيقول له المشرك : إنك لتصدق بأنك مبعوث من بعد الموت أئذا كنا ترابا؟ فلما أن صاروا إلى الآخرة وأدخل المؤمن الجنة، وأدخل المشرك النار، فاطلع المؤمن، فرأى صاحبه في سواء الجحيم، قال تالله إن كدت لتردين. وذكر بسنده عن فرات بن ثعلبة البهراني في قوله (إني كان لي قرين) قال : إن رجلين كانا شريكين، فاجتمع لهما ثمانية آلاف دينار، وكان أحدهما له حرفة، والآخر ليس له حرفة، فقال الذي له حرفة للآخر : ليس لك حرفة، ما أراني إلا مفارقك ومقاسمك، فقاسمه وفارقه، ثم إن الرجل اشترى دارا بألف دينار كانت لملك قد مات فدعا صاحبه فأراه. فقال : كيف ترى هذه الدار ابتعتها بألف دينار؟ قال : ما أحسنها، فلما خرج قال : اللّهم إن صاحبي هذا قد ابتاع هذه الدار بألف دينار، وإني أسألك دارا من دور الجنة، فتصدق بألف دينار، ثم مكث ما شاء الله أن يمكث. ثم إنه تزوج امرأة بألف دينار، فدعاه وصنع له طعاما، فلما أتاه قال : إني تزوجت هذه المرأة بألف دينار قال : ما أحسن هذا، فلما انصرف قال : يا رب إن صاحبي تزوج امرأة بألف دينار، وإني أسألك امرأة من الحور العين، فتصدق بألف دينار، ثم إنه مكث ما شاء الله أن يمكث. ثم اشترى بستانين بألفي دينار، ثم دعاه فأراه، فقال : إني ابتعت هذين البستانين، فقال : ما أحسن هذا، فلما خرج قال : يا رب إن صاحبي قد اشترى بستانين بألفي دينار، وأنا أسألك بستانين من الجنة، فتصدق بألفي دينار. ثم إن الملك أتاهما فتوفاهما، ثم انطلق بهذا المتصدق فأدخله دارا تعجبه، فإذا امرأة تطلع يضيء ما تحتها من حسنها، ثم أدخله بستانين، وشيئا - الله به عليم - فقال عند ذلك : ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا وكذا. قال : فإنه ذاك، ولك هذا المنزل والبستانان والمرأة . قال : فإنه كان لي صاحب يقول : (أإنك لمن المصدقين..) قيل له : فإنه في الجحيم. قال : فهل أنتم مطلعون؟ فاطلع فرآه في سواء الجحيم ، فقال عند ذلك: ( تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ. وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ).