الأمة التي تعاني من الاستبداد تجعل ثلاثة أرباعها يعيشون على هامش الحياة، بينما ينام الربع المحظوظ في العسل، فإذا عصفت الرياح وجد الجميع أنفسهم في العراء، ويومها لا تكاد تجد رجلا واحدا يتحمّل مسؤولية ما حدث. إذا تحدثنا عن الجزائر كنموذج لهذه الظاهرة، وجدنا واقعنا يدعونا إلى تجاوز أطروحة "النوم في العسل"، لأن هذا لا يتناسب مع أوضاعنا، لأن ثورة التحرير "ذوّبت" المجتمع الجزائري كله في حب الوطن والتضحية من أجل حريته واستقلاله ووحدته وسيادته..ولكن "عقلية" الحزب الواحد والرأي الواحد..كرّست واقعا مغايرا لإرادة الشعب أنشأ مفهوما معكوسًا للأقليات أطلقوا عليه اسم "المجتمع المفيد". وظل هذا "المجتمع المفيد" هو المهيمن على السلطة والثروة منذ فجر الاستقلال إلى اليوم، وحتى الذين يتحدثون باسم الشعب، من إسلاميين ووطنيين وديمقراطيين، لم يجرّبوا عرض "بضاعتهم" على الشعب بشفافية ليختارهم أو يختار غيرهم، وما زال الصراع قائما بين أقلية نافذة وأغلبية رافضة، وبينهما نخبة مهزومة حضاريا ولغويا وفكريا..تقايض المنصب بالصمت، وقد استمر هذا الوضع نصف قرن بلون سياسي واحد يتم فيه تدوير السلطة بين الحواشي، وتأتي الانتخابات لتعزّز هذا "التدوير" ببلديات تابعة للإدارة ومجالس ولائية خاضعة لسلطة الإدارة، وبرلمان تابع للجهاز التنفيذي، ولا تجد الطبقة السياسية من هوامش الحريات إلاّ ما تجود به المناسبات الانتخابية أو تفرضه حملات التوعية ضد مخاطر خارجية وهمية، كثيرا ما كانت تتصدى لها الجهات الرسمية بتنظيم "مسيرات عفوية" كرّست واقعا انهزاميا لمكونات المجتمع كان من أخطر مظاهره : 1 - اختفاء المجتمع المدني ونهاية دور النضال النقابي المطلبي. 2 - استقالة الكتلة الناخبة، بعد يأسها من إمكانية التغيير عن طريق الصندوق. 3 - انحسار ظل سلطة القضاء والسلطة التشريعية أمام "تغوّل" سلطة الجهاز التنفيذي. 4 - فقدان الثقة في كل ما له صلة بالسلطة حتى هلال الصوم والفطر !؟ أمام هذا الواقع المسكوت عنه - الذي كانت مبرراته قائمة إلى أن رفعت حالة الطوارئ - تم تمييع مفهوم الحرية المكفولة دستوريا، وصار حصول المواطن على بعض "حقوقه" صدقة من أعوان الدولة أو منّة عليه من الإدارة، وصرنا نسمع من بعض النافذين قولهم "أعطيناكم كذا..وكذا" وصار البريء إذا برّأته الإدارة من إشاعة لفّقها "ذيل" أو دعاية رماه بها مغرض..يعتبر ذلك هدية نزلت عليه من السماء، والأخطر من كل هذا أمران مستفزّان لمشاعر الرأي العام إذا استمرا إلى ما بعد 2012 فإن الدعوة إلى التأسيس لمنظومة حكم ثانية يصبح واجبا وطنيا، وهما : 1 - معاملة المواطنين على أساس ألوانهم السياسية أو بحسب شهادة الميلاد (مع أن الدستور ينصّ على أن المواطنين سواسية). ولكن الواقع شيء آخر.. 2 - النظر إلى جيل الاستقلال – الذين بلغوا نصف قرن- على أنهم ما زالوا أطفالا، وليست لهم أهلية إدارة الحكم ولا تجربة تؤهّلهم للقيادة، وأن عليهم أن يقتنعوا بما هم فيه من "مواقع" ويكتفوا بالاصطفاف خلف أصحاب الحنكة والمقدرة وأقليات المجتمع المفيد؟؟. إن أول خطوة يجب أن تتأسَّس في هذا الحراك الإصلاحي، قد يكون من شأنها إحداث "الصدمة التاريخية" اللاّزمة ليعيد المجتمع الجزائري توازنه الطبيعي هي إسقاط أطروحة "المجتمع المفيد"، والتذكير بأن الجزائر كانت محتلة من طرف فرنسا لمدة 132 سنة، وأن الذين قاوموها 90 عاما، وانتفضوا يوم 08 ماي 45، وقدّموا أرواحهم الطّاهرة الزّكية في أتون ثورة التحرير المباركة فداء لهذا الوطن بين 54-62، كانوا من عامة أبناء الشعب ولم يكونوا من "المجتمع المفيد"، وأن الجزائر كانت قبل احتلالها مسلمة، وعادت بعد تحريرها إلى أصلها عروبة وأمازيغية وإسلاما..والشعب الجزائري شعب مسلم، وجميع أبناء الجزائر وبناتها كانوا شركاء في تحرير وطنهم واسترجاع سيادته، وبموجب هذه "الشراكة التاريخية" في التحرير، وفي اللغة والدين والوطن..لا بد من عقد "شراكة سياسية" لاستكمال البناء، يكون "المجتمع المفيد" أحد مكوناتها وليس كل مكوناتها، ولا هو مكوّنها الوحيد، عندئذ فقط نتجاوز هواجس التدافع بين أقلية نافذة وأغلبية رافضة ونعيد بناء الشرعية المنقوصة ونبدأ الدخول إلى عالم ما بعد المأساة الوطنية من أوسع أبواب الديمقراطية التي لا أحد غير الشعب يملك تسليم تأشيرة العبور إليها من داخل صناديق الاقتراع.