الحلقة الأولى صدر لرئيس الحكومة السابق السيد رضا مالك كتاب تحت عنوان: حرب التحرير والثورة الديمقراطية، في حجم متوسط تجاوز عدد صفحاته ال 700 صفحة، وهو عبارة عن ندوات صحفية، ومحاضرات، ولقاءات، وحوارات قديمة لم يضف المؤلف عليها شيئا جديدا واكتفى بجمعها وتبويبها في ثمانية فصول وأربعة ملاحق، أثار خلالها عدة قضايا تاريخية وإعلامية وسياسية ودبلوماسية.. كان من أخطرها حديثة عن الإسلام والإرهاب، والإسلام والديمقراطية، وقد تعرض في ثلاثة فصول -الرابع والخامس والسادس- لمسائل حساسة لها صلة بالدين والعقيدة وحركة مجتمع السلم، ولأنه بالغ في الحديث عن الأصولية بنظرة استئصالية فقد رأينا مفيدا أن نناقشه في بعض هذه الأفكار ونتوقف عندها في الجوانب التي زاغ فيها قلمه فافترى على الحقائق وكال التهم جزافا لمن يدرك هو نفسه أنهم كانوا من حماة الدولة ومن الذين استتبت بجهودهم الأوضاع في فترة كان فيها الحديث عن الإرهاب يكلف صاحبه الموت الزؤام . * 1- شطحات علمانية: تعرفت على السيد رضا مالك خلال عام 1991 وعرفته ذا ميول استئصالية متعصبا لأفكاره مهاجما لكل ما له صلة بالدين واللغة و"الخطاب الإسلامي"مصنفا كل ذلك في خانة الأصولية التي تعني عنده الالتزام بالإسلام والعودة إلى أصوله (كتاب الله وسنة رسوله) والتي كانت هدفا لمسمى القطب الديمقراطي المناكف لكل ما هو دين، وكان الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله شديد الحذر من أطروحات رجلين في الجزائر هما: الهاشمي الشريف، (الأمين العام لحزب الطليعة الاشتراكية،) رحمه الله ورضا مالك (الأمين العام لحزب التحالف الوطني الجمهوري، ANR) الذي أسسه يوم 05 مايو 1995 بعد خروجه من الحكومة وأعلن عن انسحابه منه يوم 21 مايو 2009 بعد أن ترسخ التحالف الرئاسي بين الجبهة والتجمع وحركة مجتمع السلم في رئاسيات 09 أفريل 2009. * * كان حذر الشيخ نحناح رحمه الله من أطروحات هذين الرجلين في محله لإدراكه أن الخصومات السياسية القائمة على التنافس بين البرامج والأفكار والأطروحات الانتخابية هي عين الديمقراطية، أما الخصومات السياسية القائمة على التعصب الإيديولوجي القائم على فكرة الإقصاء ومحاربة الإسلام فليس لها حل إلاّ عرضها على الصندوق الانتخابي الذي جربه الإقصائيون ثلاث عشرة (13) مرة بين 12 جوان 1990 و09 أفريل 2009 فلم يعطهم الشعب إلاّ أصفارا على الشمال، فلم يجدوا إلاّ ورقة الإرهاب الإسلاماوي يتدثرون بها ويخوفون بها الناس، ويدعون الإدارة إلى إقصاء الإسلاميين جميعا من اللعبة الديمقراطية وحرمانهم من الدخول ابتداء إلى حلبة السباق ومنعهم من مجرد الترشح (كما حصل للشيخ نحناح في رئاسيات 1999) لأن الشعب سوف يزكيهم ديمقراطيا، وابتدعوا أفكارا غريبة قالوا إنها نابعة من ديمقراطية المجتمع المفيد، كرس الهاشمي الشريف حياته كلها لخدمتها وأفضى إلى ربه دون أن يتجسد منها شيء على أرض الواقع فورثتهُ مجموعة من دعاة نظرية الاستئصال الداعين إلى إقامة دولة المجتمع المفيد بإقصاء الأصوليين وتهميش الشعب لأنه غثاء، فتجمعت هذه النخب لتعيد إنتاج هذه الأفكار وتسويقها في المحافل الرسمية وإيغار صدر السلطة بها لاستخدامها ضد كل من له توجه إسلامي سواء حمل اسم جبهة أو حركة أو حزب.. أو حتى جمعية خيرية، لذلك تجمعت هذه الأصوات سبع (07) مرات بين 90 - 2009 لخدمة هدف واحد هو إسقاط الإسلاميين وإقصاؤهم وحرمانهم من كل حقوقهم السياسية، بل دعا بعضهم إلى حل كل الأحزاب القائمة على خلفية دينية بحجة أن الدستور يمنع ذلك ونسوا أن بعض أحزابهم قائمة على موانع دستورية واضحة لغوية وجهوية وثقافية وأن بعض خطاباتهم فيها تنصل من الإسلام الذي هو دين الدولة بنص الدستور: * * - تجمعوا لدفع الرئيس بن جديد إلى تقديم استقالته يوم 11 يناير 1992 بحجة إنقاذ الجمهورية. * * - وتجمعوا لتحريض محمد بوضياف (رحمه الله) على التخلص من أصحاب اللحى والتصدي للأصولية وفتح الحرب على المفسدين!؟ * * - وتجمعوا في المجلس الوطني الانتقالي لتجميد قانون تعميم اللغة العربية ومحاربة الثوابت بحجة أنها من مغذيات الإرهاب!؟ * * - وتجمعوا بعد الانتخابات الرئاسية الأولى (16 نوفمبر 1995) لمنع الشيخ نحناح من المرور عبر صناديق الاقتراع. * * - وتجمعوا ضد الرئيس زروال لإبطال مفعول "قانون الرحمة«. * * - وتجمعوا قبل رئاسيات 1999 لحرمان الشيخ محفوظ نحناح من مجرد الترشح للرئاسيات بحجج واهية!؟ * * - وتجمعوا، بعد مجيء الرئيس بوتفليقة سنة 1999، ضد سريان مفعول قانون الوئام المدني بعد الاستفتاء الشعبي الذي فاجأهم جميعا، فحركوا ما عرف بملف المفقودين. * * - وتجمعوا سنة 2009 لعرقلة مرور الاستفتاء حول ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، وأداروا ظهورهم للإصلاحات التي قال بعضهم إنها تصب في رصيد التحالف الرئاسي الذي جمع يمين الوسط ويسار الوسط ووسط الوسط. * * وها هم اليوم، وقد تعافت الجزائر، ووقفت الدولة الجزائرية على قدميها واستعادت الساحة الوطنية كثيرا من عافيتها.. بدأت بيادق هذا المجتمع المفيد تفقد مواقعها الواحد تلو الآخر بعد أن احترقت كل أوراقهم -في الداخل والخارج- وأدركوا أنهم كانوا يغردون خارج السرب، وأن الشعب الجزائري يعرف بشكل دقيق ماذا يريد الاستئصاليون: * * - فقد تهافتت نظرية المجتمع المفيد وفرض الشعب خياراته. * * - وتهالك الجسم الإداري الذي كان يحمي العلمانية في الجزائر. * * - وتفرق شمل القطب الديمقراطي العلماني بعد أن أقصاه الصندوق. * * - وانهارت معنويات الذين كانوا يمنون أنفسهم بفشل التحالف. * * - وتبخرت أحلام العلمانيين الذين كانوا يحضرون أنفسهم لاستلام الدولة الجزائرية على طبق فرنسي، فإذا بأصدقائهم -في الضفة الأخرى- يصفعونهم بقانون تمجيد الاستعمار ويتهمون رجال الثورة بالتشدد، بل ويرمون بعض رموز الاستئصال بالفشل الذريع أمام أطروحات المعتدلين من الإسلاميين (حركة مجتمع السلم نموذجا) وحان الوقت لتراجع العلمانية أوراقها في العالم كله، وفي الجزائر بشكل خاص. * * 2- الرجعية العلمانية: كل من يقرأ كتاب رضا مالك بموضوعية وتجرد يخرج بانطباعين واضحين لا يختلف حولهما اثنان: * * - أن الرجل ما زال يعيش أثغاث أحلام ثورة نوفمبر 54 المباركة التي لم تعد ملكا لرضا مالك بل لرضا الشعب، وأن الزمن قد تغير 180 درجة، وأن الحركة الوطنية التي كان لها الفضل في تحرير الأرض واسترجاع السيادة الوطنية عليها أن تطور من فكرها وأدوات عملها لتعيد تأسيس الدولة واستكمال بناء الوطن على أسس بيان أول نوفمبر الذي وضع للدولة الوطنية إطارا إسلاميا "دولة جزائرية ديمقراطية اجتماعية ذات سيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية"وهو ما يرفضه دعاة المجتمع المفيد جملة وتفصيلا. * * - أن صاحب الكتاب يعتقد أن سبب المشكلة وجوهرها هو الأصولية الإسلاموية، وأن على القائمين على شأن هذا الوطن إبعادهم وإقصاءهم وحرمانهم من أي حق سياسي لأنه -في نظر المؤلف- لا فرق بين الفيس (FIS) وحماس (HAMAS) إلاّ في الزمن أو في الجرعة الأصولية، فكلاهما أصولي لا يصلح معه إلاّ المجابهة بالعنف، لذلك وجدناه يدين كلا من الرئيس بن جديد والرئيس زروال لأنهما، في نظره، تعاملا مع الأصوليين باللين، وتحالفا معهما "حلفا ضد الطبيعة«، وأن هذا الحلف هو الذي قضى على القطب الديمقراطي الذي يراه رضا مالك محور المعركة الحقيقية في البناء الديمقراطي في الجزائر كلها منذ بداية الثورة (التحاق جمعية العلماء المسلمين بها) إلى يوم الاستقلال وميلاد جمعية القيم، إلى أن أشرك اليمين زروال جماعة محفوظ نحناح (حركة المجتمع الإسلامي) حماس في إدارة شؤون الحكومة سنة 1995. * * * هذا معناه: * * أن أطروحات العلمانيين في الجزائر لم تخرج عن خمس (05) أفكار كبرى ظل القطب الديمقراطي يلوكها ويعيد إنتاجها على مدار أربعين (40) عاما ويقدمها للشعب في شكل شعارات جوفاء لا مكان لها في ثقافته ولا في موروثه الحضاري، هذه الأفكار هي نفسها التي بسطها رضا مالك في كتابه، وكرسها في جميع حواراته ودافع عنها في كل المحافل الوطنية والإقليمية والدولية وحاول الدفاع عنها والترويج لها وكأنها حقائق علمية لا تقبل النقاش، وخلاصتها خمس جمل مفصلية هي: * * - أن هناك فرقا شاسعا بين المسلم والإسلامي * * - أن الأصولية شرّ كلها ولا ينفع معها إلاّ المواجهة والاستئصال * * - أن القطب الديمقراطي هو الأحق بالمسك بدفة الحكم في الجزائر * * - أن الشعب "غاشي« وغثاء، وأن القطب الديمقراطي هو المجتمع المفيد، وأن الأغلبية ليست مقياسا للديمقراطية. * * - أن المصالحة مع الأصولية معناها المكين للإسلام السياسي الأصولي.. وأن الحل هو مقاطعة الأصولية والتصدي لها بكل الوسائل ولو زكاها الشعب وصوتت لها صناديق الاقتراع. * * ولأن هذه الأفكار الخمس (05) هي خلاصة ما تضمنه الباب الرابع والخامس والسادس من كتاب رضا مالك، فإنه لا مناص من التوقف عندها لمناقشتها بسرعة في ضوء التطورات التي عرفتها الجزائر بين 92 - 2010 والمساهمات التي قدمتها حركة مجتمع السلم عمليا للرد الميداني على العلمانيين المتطرفين من دعاة المجتمع المفيد، ولنسف ترهات القطب الديمقراطي الذي تبدد شمله ولم يعد قادرا على أن يعرض نفسه على رضا الشعب وليس على رضا مالك؟ * * 3- ديمقراطيون خارج الصندوق: لن أناقش الكتاب في القضايا المتعلقة بالثورة والتي غطت 323 صفحة من هذا الكتاب، فذلك حق الأجيال بعدما صارت تاريخا، وللتاريخ رجاله، ورضا مالك من رجال التاريخ، ومن حقه أن يكتب فيه، وقد فعل فلما خرج المؤلف من التاريخ الحديث عن - 1920، 1962 - بدأت قدمه تسيخ في أوحال الفكر التنظيري الذي جعل قدوته فيه المرحوم الطاهر جاووت، لقد حمَّل المؤلف كل شرور الدنيا للذين قتلوا مفكري اليسار ومنظري الفكر العلماني.. ولم يقل كلمة إدانة واحدة في الذين اغتالوا منظري اليمين ودعاة الفكر الإسلامي وكأن آلة الموت في الجزائر كانت تحصد فقط أرواح القطب الديمقراطي ولم يذهب ضحية المأساة الوطنية ضحايا من دعاة وعلماء القطب الإسلامي، مع أنه يدرك أن حركة مجتمع السلم وحدها دفعت أزيد من 500 شهيدا من خيرة أبنائها يتقدمهم الشهيد الذبيح محمد بوسليماني رحمه الله.. ثم ربط الأصولية في الجزائر بمن سماه القائد الروحي عمر عبد الرحمان الذي يعتقد المؤلف أنه وجد ضالته فيه فأدخله على خط الجبهة الإسلامية للإنقاذ (FIS) ومنها انطلق ليعمم الشرور ويوسع دائرة الإسلاماوية لتبتلع كل من يؤمن بالعقيدة الإسلامية التي يسميها إيديولوجيا الأصولية ويعتبرها السبب في النظام الشمولي العالمي، ويربط كل ذلك بمواجهة الأصولية ليجيب عن سؤال: من يقتل من؟؟ * * شخصيا، لا أحب أن أناقش هذا النوع من الطرح المنحاز فهو طرح تقليدي لجميع منظري القطب الديمقراطي (كما يسمون أنفسهم) ولا غرابة في أن يدمنه رضا مالك لأنه قضى كل عمره مدافعا عنه، لكن الغرابة تكمن في تنصيب نفسه فقيها يناقش المصطلحات الشرعية ويفرق بين المسلم والإسلامي ويحمل السلطة الجزائرية (من الرئيس بن جديد إلى الرئيس بوتفليقة) مسؤولية التغاضي عن السماح للإسلاميين بمشاركتهم إدارة شؤون الدولة ومنحهم الاعتماد الرسمي لأحزاب يتحدثون باسمها، ويدعوهم إلى عدم السقوط في الفخ الذي وقع فيه الرئيس السوداني جعفر النميري وينصحهم باعتماد طريقة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي في تعاطيه مع الإسلاميين في تونس. * * وبما أن القطب الديمقراطي يبحث عن ديمقراطية خارج الصندوق، ديمقراطية بلا انتخابات ولا شعب ولا برامج.. فإنه كذلك يدعو الإدارة إلى إقصاء الإسلاميين ابتداء من اللعبة الديمقراطية والتعاطي معهم كأنهم غثاء لا يصلح معهم إلاّ الإقصاء والتصفية والمواجهة بكل الوسائل، ويرفض منطق الفرص المتوازنة، ويرى: * * - أن من حق العلمانيين اعتماد أحزاب على أسس لغوية أو ثقافية أو جهوية.. ولكن ليس من حق الإسلاميين أن يعتمدوا أحزابهم بناء على خلفيات إسلامية (إيديولوجية). * * - ومن حق العلمانيين المشارك في السلطة (وقد كان هو شخصيا رئيس الحكومة) وبالقابل ليس من حق دعاة المشاريع الإسلامية أن يترشحوا، مجرد ترشح لإدارة شؤون الدولة لأنهم بزعمه إسلاميون وليسوا مسلمين (ومعناه: أن رضا مالك مثلا مسلم، والشيخ نحناح إسلامي.. ولله في خلقه شؤون؟؟). * * - ومن حق القطب الديمقراطي أن يحتمي بالسلطة ويحرضها ضد "الأصوليين"وليس من حق هؤلاء الذين يسميهم رضا مالك بالأصوليين أن يشاركوا في السلطة وليس من حقهم أن يحتموا بها ضد هجمات الاستئصاليين والعلمانيين والرافضين للوجود الإسلامي مطلقا في دواليب الحكم ودفعهم إلى المعارضة، بل إلى التطرف تمهيدا لتصفيتهم.. * * نوافذ للمقال * * تعرفت على السيد رضا مالك خلال عام 1991 وعرفته ذا ميول استئصالية متعصبا لأفكاره مهاجما لكل ما له صلة بالدين واللغة و"الخطاب الإسلامي« مصنفا كل ذلك في خانة الأصولية * * أطروحات العلمانيين في الجزائر لم تخرج عن خمس أفكار كبرى ظل القطب الديمقراطي يلوكها ويعيد إنتاجها على مدار أربعين عاما ويقدمها للشعب في شكل شعارات جوفاء لا مكان لها في ثقافته ولا في موروثه الحضاري * * * لم يقل كلمة إدانة واحدة في الذين اغتالوا منظري اليمين ودعاة الفكر الإسلامي، وكأن آلة الموت في الجزائر كانت تحصد فقط أرواح القطب الديمقراطي ولم يذهب ضحية المأساة الوطنية ضحايا من دعاة وعلماء القطب الإسلامي * * * * * *