عاش أبي ردْها من الزمن، أمْضى نصْفه يتنقَّل بين واد وسفح جبل، كان ذلك أمس فقط، أيام الإستدمار البغيض، وعاش نصْفه الثاني في طوابير الإحتياجات بين وثيقة حالة مدنيّة، وعبْوة غاز نادرة، وكيس دقيق يَهلُّ ثم يخْتفي، وماء لا تَتَنبّأ حتى مصالح الأحوال الجوية بموعد قطره، أوحافلة نقل قد تأتي وقد تَتمنع كالعروس في خدْرها. وأطال الله عمْر أبي قليلا، فعاش بقيَّته يقف في زحْمة الطرقات، وزحْمة المستشفيات، وزحْمة العيش، ثم رحَل، يأْمل أنْ غدا سَيَهلُّ يوما تتسِّع فيه رقْعة هذا الوطن لتكْفي بَنِيه، ولكن رحمة الله عاجلته فلم تدركه حرْقة الشباب تأفُّفا من ضيق هذا الوطن وخوْضهم عباب بحر، الداخل فيه مفْقود والخارج منه مذْلول. وكَبرتُ، وشاخ أتْرابي في زحْمة الطرقات، وكبروا في المنْعرجات، وانْتظرْنا فرَجا طالما إنْتظره الأب، وهلَّت سنوات الفيْض الإلهي البترولي، وخُطِطت مشاريع للطرقات، وأُنْجِز منها ما أُنْجِز، ودقّت ساعة الفرج، أو هكذا هُيِّئَ للراكب والماشي. وذات صباح لم يخْتلف عن صباحات أبي، أُقْتُصَّ رواقان من كل طريق جديدة أُنْجِزت بملايير الدولارات لم يَغْبَرّ سواد زفْتها بعْد، وأُبْقِيَ رواق، يَمرُّ منه الخلْق، كنفس الدرب الذي مرُّوا منه أبدا، تَصُمُّ آذانهم زعيق نفس الأبْواق التي أصمَّتْهم سرمدا. وفي صبر أو في غير صبر، يقف أحَدُهم ينْتظر تأشيرة العبور، يُسْلِمه طابور إلى طابور، لِيصل وجْهته منْهوك القُوى مفْروم الأوْصال، لا يقْوى له عقل على خدمة ولا جسد على إتْقان مِهْنة. وفي المساء، يعود من وجْهته إلى وجْهته خائرا، ويشعر أنْ ليس في هذا الضيق أوالتضْيِّيق من نعْمة، إلا نعْمة كوْنه يعود، بل يُمْضي أيامه يُمسَّد عضلات فكر وجسد، لم تَعًُدْ تَقْويان على مسير أو خوض في سيْل. من أجل ذلك، لا غرْو أنْ تٌطالعنا بعض الجرائد بإحصائيات قام بها مكتب عالمي، صنَّف العامل الجزائري ضمن الفئات التي لا تعْمل إلاّ أقلّ من ساعتين يوميْن، وما أظنّ هذا المكتب أدْخل في الحسْبان الوقت الذي يُمْضيه هذا العامل، والضَنك الذي يُعانيه إيّابا من العمل وذهابا إليه. كل ذلك يُذكِّرني بما رَواه لي أحَدهم، أنّه يوم كان في الخدْمة، وفي المساء بعد إنْهاء التدْريب، يُساق الجمْع الى أحْراش لِجزِّ العشْب، عشْبا لا ينْفكّ ينْمو ويكْبر، وتساءل صاحبي في سذاجة البدويّ عما يمْنع من إدْخال بضْع أبقار للانْتفاع بهذا العشْب الطرِيٌ، وإعْفاء الخلق من عَناء جزِّه تبْذيرا وهَدْرا. وتعالى تفْكيره الى أذٍنيْ مسْؤول، فأجاب “ألا ترى مئات الأبقار أمامك، ُجزْ يا بنيّ، فأنْتم الأبْقار، لو أُبْقِيَ لكم على فائض وقْت فستُتْلِفُونه في القيل والقال وكثْرة السُّؤال”، وصدَق القائد، كم في هذا العالم من حُكماء. ولكن بِمُقابل ذلك، عِوَضا أنْ يرْبأ ذلك القائد بنفْسه عن رعْي الأبقار لِرَْعْيَّ البشر، إنْحطّ، فقد إخٍتار، أخْطأ أو أصاب الإخْتيار، فإنَّ الله يخْلق ما يشاء ويخْتار. [email protected]