سلمنا أخيرا الفدائي الشهير محمد بن صدوق مسودة مذكراته - التي كتبها بمساعدة ابنته زبيدة - وأذن لنا بنشر ملخص عنها. هذا الفدائي الذي تعاطف مع الفيسلوف الوجودي جان بول سارتر - فكان شاهد نفي في محاكمته - صدر مذكراته بملاحظة لا تخلو من مرارة: أن بعض الكتاب سبق أن تناولوا العملية التي اشتهر بها، فضلا عن بعض سيرته - دون أن يتصلوا به أو يستمعوا إليه! ويعني بهؤلاء الكتاب خاصة: - الروائي رشيد بوجدرة الذي استهلم من قصة الفدائي روايته "الفائز.. بالكأس".. - الفقيد حسن دردور - مؤرخ عنابة - الذي جمع في كتابه بين الفدائي والشهيد القائد مختار الباجي ثاني شهيد من مجموة ال22. وعملا بمبدأ النقد الذاتي لا يمكنني بالمناسبة أن أستثني نفسي: فقد كتبت عنه أيضا دون أن أراه !(*) معتمدا في ذلك على كتاب دردور خاصة! وتنفرد "الفجر" بنشر ملخص عن مذكرات هذا البطل لتدارك ما فات، وتصحيح أخطاء كثيرة ارتكبت دون شك بحسن نية. "لن أحارب.. شعبا مستعمرا.. لا في تونس.. ولا في مدغشقر.." بن صدوق من العائلات العريقة عراقة عنابة القديمة التي تكون نزحت إليها من الأندلس، في ركاب الإمام المصلح أبي مروان الليثي؛ صاحب المسجد العتيق المطل على ميناء المدينة. كانت هذه العائلة في العهد التركي تعرف باسم "أولاد زروق"، لتصبح - ابتداء من ثمانينات القرن التاسع عشر في ظل الاحتلال الفرنسي - "بن صدوق"، نسبة إلى جده الثاني الصادق ولد زروق. وكان جده محمد يعمل في النقل البحري كأحد الموارد الهامة بالمدينة، لكن إدارة الاحتلال الجديد ما لبثت أن حظرت هذا النشاط على الجزائريين، فوجد نفسه مجرد عتّال بالميناء. ولم يكن هذا المورد يكفيه لقوت عائلته، فكان يكمله أحيانا بالعمل كأسكافي.. وكان والده عبد الحميد أوفر حظّا، بفضل حيازته على الشهادة الابتدائية من المدرسة الفرنسية، وحصوله على عمل قارة كعون إداري بالميناء دائما. بفضل هذا العمل القار استطاع أن يؤسس أسرة جديدة، بعد أن جمعه "المكتوب" بزبيدة بن الشيخ التي تنتمي إلى أولاد سيدي الشيخ بالبيض.. ولا غرابة في ذلك، لأن عنابة كانت في أواخر القرن التاسع عشر منفى للكثير من العائلات التي ناصرت الأمير عبد القادر وبعده الشيخ بوعمامة. في 31 أوت 1931 رزقت الأسرة بذكر أسمته محمد، باسم جده حسب العادة يومئذ. ولما بلغ سن الدراسة أدخله والده مدرسة "كليبر" وهي مدرسة وسط بين "مدرسة الأهالي" ومدرسة الفرنسيين، لأنها كانت تجمع أبناء فئة من الجزائريين - متوسطي الحال - بأبناء فقراء المستوطنين واليهود. بعد فترة من الدراسة اندلعت الحرب العالمية الثانية فجند إليها والده، الأمر الذي وضع الصبي محمد أمام مسؤولياته؛ بعد أن أصبحت والدته تعوّل عليه، في شراء بعض الحاجات كالحليب والخبز. ونظرا لنشاط الحلفاء في ميناء عنابة، فقد كان هدفا للطيران الإيطالي خاصة. وذات يوم حدث ما كان متوقعا: سقوط مجموعة قنابل نسفت مدرسة "كليبر" وما جاورها، مما أدى إلى مقتل جميع المتواجدين بها بدءا بصغار التلاميذ. لحسن الحظ أن محمدا كان حينئذ في طابور أمام مخبزة قريبة من الحادث، ينتظر دوره لشراء حصة العائلة من الخبز في زمن الحصص. محمد.. الذي أصبح بعبعا! هذه الحادثة الأليمة لم تمنعه من مواصلة الدراسة، والحصول على الشهادة الابتدائية غداة إعلان الهدنة سنة 1945. للتذكير فإن محمدا كان إلى جانب الدراسة ينشط في فوج المُنى الكشفي، وفي فرقة "المزهر البوني" للموسيقى والطرب. ورغم صغر سنه آنذاك، فقد عاش انعكاسات مجازر 8 مايو من نفس السنة كقطيعة حقيقية. فقد تبين فجأة الواقع الوطني بكل قساوته: وجود عالمين، عالم الفرنسيين الذين يحكمون البلاد، وعالم الأهالي، الذين عليهم أن يتحملوا كل شيء، حتى الموت تحت رصاص البنادق وفي أفران الجير. والأدهى أن زملاءه الفرنسيين أصبحوا يوحون إليه بأنه "عربي". وبالتالي لم يعد بإمكانهم أن يعاشروه أو يلعبوا معه، بل حتى أولياؤهم أصبحوا يخوفونهم منه: "حذار! ها هو محمد قد أقبل! عليكم بملازمة البيت!". كان محمد قد سكن بعض الوقت حي "بوسيجور"، محاورا بذلك المستوطنين وأبناءهم لكن جاءت قطيعة 8 مايو 45 فاضطرته لأن يعود من حيث أتى: إلى بني جلدته في المدينة القديمة. خلال الموسم الدراسي 45/ 46 تمكن من الالتحاق بالمعهد التقني، ليجد نفسه في قسم من 30 تلميذا، من بينهم اثنان فقط من الأهالي.. غير أن عقدة الأقلية التي أحس بها، بدل أن تثبط من عزيمته ورفيقه، كانت حافزا للتفوق لاسيما في العلوم والرياضيات. اكتشاف موهبة.. اسمها فرڤاني" شهدت فترة ما بعد الحرب انتعاشا في الحركة الكشفية بعنابة، بفضل أحد روادها يومئذ نوار نوار. فتوطدت علاقة محمد بها أكثر فأكثر، لا سيما بعد أن وجد في "فوج المنى" ثلة من العناصر الفاعلة، أمثال عبد الله فاضل، عبد الكريم السويسي، العربي أمراد، عبد الكريم خالدي... إلخ. وقد شارك ضمن فوجه في صائفة 1947 في تجمع كشفي عالمي، أقيم في مدينة "مواسون" بفرنسا.. واستعدادا لهذه المناسبة انتظم بسيدي فرج (العاصمة) تجمع لإطارات الكشافة الإسلامية، رفع فيه العلم الوطني، وقام خطيبه المناضل الوطني محمد العربي دماغ العتروس الذي كان لكلمته عميق الأثر في نفس بن صدوق، حتى أنه يذكر ذلك قائلا "إن الخطيب زرع فينا فيروس الكفاح الوطني والثوري مدى الحياة"! عقب تجمع سيدي فرج عبر البحر مع رفاقه بالعاصمة، على متن الطراد "جورج ليغ" الذي كان شاهدا على بداية تمرد عناصر الكشافة الإسلامية. فقد سلمت إليهم أعلام فرنسية فتركوها جانبا، وطلب منهم الإنشاد في ميكرو إذاعة الجزائر، فأنشدوا.. "الوطن حبه مقدس"! باختصار وجدوا أنفسهم يتصرفون كشباب بلد مستقل.. أثناء التجمع الكشفي العالمي بفرنسا، تم الإعلان عن استقلال الهند وباكستان، فرفعت أعلام الدولتين بالمخيم.. الأمر الذي دفع بن صدوق ورفاقه إلى التساؤل: ترى متى يأتي دورنا؟! أليس لغاندي ومصالي نفس المسار وذات الأهداف؟! وكان وفد الكشافة الإسلامية قد استغل فرصة مروره بمقاطعة "توران"، لزيارة القصر الذي نفي إليه الأمير عبد القادر، بعد وضع حد لمقاومته. بعد العودة من فرنسا أصبح بن صدوق شبه دائم بمقر الكشافة، رفقه صديقه محمد بيداري وكان فرع عنابة قد سن تقليدا سنويا، يتمثل في استغلال الأيام الثلاثة الأخيرة من شهر رمضان، لإقامة معرض تتخلله ألعاب ومسابقات، بهدف تحصيل ما أمكن من المال لتمويل نشاطاته. وخلال معرض 1948 لفت انتباه هواة الطرب بالمدينة شاب من قسنطينة، كان يؤدي أغاني إسبانبة رائجة يومئذ، فنصحوه بتوجيه موهبته في الغناء الأندلسي والمالوف القسنطيني - هذا الشاب اللامع هو الذي اشتهر لاحقا باسم محمد الطاهر الفرڤاني. ما لبث التفاني في النشاط الكشفي أن أثر في مردود بن صدوق الدراسي، فأنهى عام 1949 دورة السنوات الأربع في المعهد التقني بدون شهادة.. ليصطدم من غده بالواقع الاستعماري في الحياة العامة. عمل أولا في شركة "دورافور" في منصب "عامل مختص" لكن بأجر عامل دون تأهيل.. وانتقل إثر ذلك إلى شركة "سناف" بنفس الأجر، فحاول المشرف عليه تشجيعه باقتراح زيادة قدرها 0.25 فرنكا في الساعة! اعتبر الشاب الأنوف هذا الاقتراح بمثابة إهانة لكرامته، ففضل أن يستقيل فورا.. "لن أحارب شعبا مستعمرا" أثر ذلك لازمته البطالة حتى خريف 1951، تاريخ استدعائه لأداء الخدمة العسكرية.. التي تقرر استئنافها في تلك السنة، بعد أن كانت السلطات الفرنسية قد أوقفتها غداة الحرب العالمية الثانية مباشرة. التحق بالفيلق الثالث للطلائع الجزائريةبقسنطينة حيث أجرى فترتين تدريبيتين الأولى للحصول على رتبة عريف أول والثانية على رتبة رقيب. وكان جيش الاحتلال يومئذ يكون ضباط صف بهدف تشجيعهم على التعاقد والزج بهم في لهيب حرب الهند الصينية. وبينما كان ذات يوم يتجول بشوارع المدينة، صادف المناضل علي بودجاجة المطارد من عنابة في قضية "المنظمة الخاصة"، والهارب بعد نجاته من الاعتقال. كانت انتفاضة الشعب التونسي قد انطلقت منذ مطلع 1952، فكان الحديث بين المناضل والجندي يدور حولها، وفجأة سأل بودجاجة "ما عسى أن يكون موقفك ورفاقك المجندين لو قررت السلطات الفرنسية إشراككم في الحرب على الشعب التونسي؟!" سؤال كبير طلب الجندي مهلة تفكير قبل الجواب عنه. وبعد أيام عاد إلى صاحبه بالجواب التالي: "لن أحارب أبدا شعبا مستعمرا، سواء أكان في تونس أو مدغشقر أو الهند الصينية"! وأعاد بودجاجة الكرة "وماذا ستفعل في هذه الحالة؟ فأجاب: إما أن نرفض ببساطة، أو ننظم مع أصدقائي طابورا خامسا، يقوم بالتخريب أو بأي عمل من شأنه أن يعرقل الجيش الفرنسي. أثار بن صدوق الموضوع فعلا مع عدد من المجندين المصابين "بفيروس الوطنية" مثله، واستطاع أن يقنع بعضهم، ونجم عن ذلك تشكيل فوجين: - الأول بقسنطينة وتولى بن صدوق شخصيا قيادته رفقة العيد الأشڤر. - الثاني بعنابة وتولى قيادته مصطفى سريدي. وكلف عبد العزيز حسان (1) بمهمة الاتصال والتنسيق بين الفوجين، عند العودة إلى ڤالمة خلال العطلة الأسبوعية. ويعترف الشاهد أن ما قام به ورفاقه كان عملا شبانيا هاويا، لم يتطرق بعد إلى الأسئلة الجدية مثل: لماذا وكيف ومتى نشرع في العمل السري؟ كانوا يكتفون بالتحسيس والتجنيد ما أمكن، استعدادا لعمل ما في حالة نقلهم إلى تونس طبعا. وحدث أن قام مصطفى سريدي بمبادرتين: - الأولى الاتصال بالنظام السري لحزب الشعب في ڤالمة. - الثانية شن إضراب عن الخبز اليابس في رمضان. وكان رد بن صدوق على الإضراب رسالة مفادها باختصار: من غير المناسب إقحام الحركة الوليدة داخل جيش الاحتلال في قضايا بسيطة مثل هذا الإضراب وغيرها! لم يكن سريدي متمرسا في العمل السري، فرمى الرسالة بعد قراءتها في سلة المهملات، وبذلك وقعت بين أيدي "المكتب الثاني" الذي كان يراقب المجندين من ڤالمة خاصة، لمقتل آبائهم أو ذويهم في مجازر 8 مايو 1945. وكان سريدي من هؤلاء. كانت عقوبة هذا الخطأ بسيطة نسبيا: نقل رؤوس الحركة - الأربعة - إلى أقصى غرب البلاد. وهكذا وجد بن صدوق نفسه بتلمسان ضمن الفيلق السادس للطلائع الجزائرية، بعد تجريده من رتبة رقيب طبعا! عين في كتيبة إسناد مدفعي، ما سمح له با كتساب مهارة في استعمال بعض الأسلحة الثقيلة كالرشاش والمورتي. انتبه قائد الفيلق لهذه المهارة، كما اكتشف استعداده القيادي فاصطحبه معه إلى وجدة في عطلة عيد الفطر، وأثناء الطريق عرض عليه التعاقد والالتحاق بعض الوقت بجبهة الهند الصينية، واعدا بالتدخل لصالحه إثر ذلك، كي يلتحق بمدرسة شرشال للطلبة الضباط. اعتذر الجندي عن هذا العرض السخي بأدب، لأنه كان اتخذ قراره: ألا يحارب من أجل فرنسا شعبا مستعمرا.. مثل شعبه.. (يتبع) (*) في كتابنا "خصومات تاريخة"، دار هومة، الجزائر 2010. (1) صحافي سابق بيومية "المجاهد"، كان زميل دراسته في المرحلة الابتدائية للرئيس بومدين - أسوة بمصطفى سريدي. "نحن هنا"! رغم اعتقال قادة الاتحادية..! ^ في عصر 26 مايو 1957 نفذ الفدائي محمد بن صدوق عملية جريئة استهدفت "الأمير" علي شكال، وذلك عند المدخل الرئيسي لملعب "كولومب" (باريس)، في ختام نهائي فرنسا لكرة القدم الذي جمع يومئذ بين فريقي "تولوز" و"أنجي"، بحضور الرئيس الفرنسي "روني كوتي". وقد نفذت العملية في سياق حملة فرنسية شرسة على الجبهات الثلاث: الأمنية والدبلوماسية والسياسية. - على الصعيد الأمني تميز الموقف بحدثين بارزين: 1 - محاصرة العاصمة - وأهم المدن الكبرى - التي كان من أبرزها وقائعها شن حملة قمع رهيبة، بلغت ذروتها باغتيال القائد محمد العربي بن مهيدي والمحامي علي بومنجل في مارس من نفس السنة، عدا الزج بالآلاف من المواطنين في السجون والمحتشدات. 2 - اعتقال أبرز قادة اتحادية جبهة التحرير الوطني بفرنسا وفي مقدمتهم رئيسها محمد البجاوي واثنان من أهم مساعديه: صالح الوانشي، وأحمد طالب الإبراهيمي. وكان ذلك في أواخر فبراير. على الصعيد الدبلوماسي حضرت فرنسا بقوة أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أصدرت في 15 فبراير لائحة محتشمة، تدعو طرفي النزاع إلى البحث عن حل للقضية الجزائرية في إطار ميثاق الأممالمتحدة. وعلى هامش الدورة قام وفد فرنسي بجولة عبر الولاياتالمتحدة "لتنوير الرأي العام الأمريكي بحقيقة القضية وأبعادها"، وكان من بين أعضاء هذا الوفد المدعم "جاك سوستال" الوالي العام السابق والمحامي علي شكال رئيس مجلس عمالة وهران المرشح لزعامة القوة الثالثة في الجزائر! - على الصعيد السياسي واصل "روبار لاكوست" الوزير المقيم في الجزائر مساعي سلفه سوستال لإبراز شخصية محلية تحمل راية "القوة الثالثة" لعزل جبهة التحرير الوطني. وإذا كان سوستال قد فشل في إقناع فرحات عباس بلعب هذا الدور الخياني، فقد استطاع لاكوست إقناع شكال بأداء هذا الدور الكريه.. وقد بدأت الدعاية الاستعمارية فعلا في تلميع الرجل وإظهاره بالمناسبة كواحد "من أبرز الشخصيات الممثلة للشعب الجزائري". وفي هذا السياق الذي جعل السلطات الفرنسية أنها قاب قوسين أو أدنى من القضاء على جبهة التحرير وطي ملف القضية الجزائرية معها، جاءت عملية بن صدوق الجريئة والناجحة لتعيد معنويات الجانب الفرنسي وحساباته كذلك إلى نقطة الصفر!